مسؤولية الحكومة.. والاختزال الاقتصادوي للأزمة

بعد أكثر من مائة يوم على تشكيل الحكومة السورية الجديدة في 23 - 6 - 2012, والتي وصفت بحكومة مصالحة وطنية, لا بدّ من وقفة لإعادة التقييم والمحاسبة من الشعب السوري, والإضاءة على مآلات بيانها الوزاري على أرض الواقع, مدى تنفيذه أو إعاقته والأسباب الموضوعية والذاتية لذلك. وسنركز هنا على الشق الاقتصادي من الأداء الحكومي, ليس بشكل معزول كما تأخذه التحليلات القاصرة علمياً, أو السيئة النوايا سياسياً ووطنياً, بل بعلاقته بالأداء السياسي والأمني والعسكري والديمقراطي والوطني العام للحكومة ككل بكامل وزاراتها, إضافةً لأجهزة الدولة الأوسع من الحكومة, التي تتحمل بمجملها جزءاً هاماً من المسؤولية عن سير الأوضاع في البلاد خلال هذه الفترة بوصفها قانونياً السلطة التنفيذية, فضلاً عن مسؤولية مجلس الشعب والقضاء, والقوى المختلفة داخل النظام والمجتمع والمعارضة, ضمن التوازنات الإقليمية والدولية الحالية.

لا بدّ من التذكير بدايةً بأنّ الحكومة الحالية لم تكن ولن تكون بتركيبتها الحالية وباستمرار الوضع الحالي الشكل المطلوب والمنشود وطنياً لحكومة وحدة وطنية, تتمتع بصلاحيات واسعة واستثنائية, التي كان يفترض أن تقوم منذ زمن, الفرصة الضائعة والمكلفة مادياً وبشرياً منذ عرقلة قوى العنجهية المتشددة داخل النظام وداخل المعارضة, وقوى الفساد والقمع داخل الدولة والمجتمع, لتطبيق نتائج اللقاء التشاوري في تموز 2011, واستمرارها بذلك إزاء جميع المؤتمرات والدعوات الوطنية التي تلته, في أكثر من مناسبة.

ونجافي الحقيقة إن قلنا غير أنّ بيان الحكومة جاء واقعياً تماماً, بمعنى أنه عكس واقع ميزان القوى ما بين التغيير الحقيقي المطلوب شعبياً والمتناسب مع تغير ميزان القوى الداخلي والخارجي وسمة المرحلة التاريخية بوصفها انقلاب باتجاه انفتاح الأفق أمام قوى الشعوب الكادحة وعلى حساب قوى القهر والاستغلال الطبقي وسلطاتها وأنظمتها الرأسمالية, من جهة, وبين منازعة ومقاومة أدوات تلك القوى الموجودة موضوعياً داخل السلطة وجهاز الدولة.

إنّ هذا التوازن الحرج غير المحسوم مؤقتاً هو الذي جعل البيان الوزاري غيمياً وغير حازم وخجول في جانبه السياسي, المتعلق خاصةً بمدى جذرية التغيير المطلوب والحسم وفتح المعركة السياسية بالدرجة الأولى ضد قوى الفساد ومافياته. ولذلك جاء الجانب الاقتصادي ليعكس هذا الجانب المغفل سياسياً, الأمر الذي لا يعني بحال من الأحوال أنّه بالإمكان حلّ الأزمة الاقتصادية بمعزل عن حلّ شامل سياسياً واجتماعياً وديمقراطياً ووطنياً, لأنّ هذه القضاياً مترابطة موضوعياً.

إنّ مشاركة قوى من المعارضة الوطنية - الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير- في الحكومة عبر وزارتي المصالحة الوطنية (د.علي حيدر), والتجارة الداخلية وحماية المستهلك (د.قدري جميل), تأتي ضمن هذا التوازن, وطبيعي جداً أنها جاءت بالتالي غصباً عن الطرف الفاسد سياسياً واقتصادياً في هذا التوازن, لذلك كان من المتوقع والطبيعي جداً أن يعمل ذلك الطرف على استهداف جهود هاتين الوزارتين بالذات, لأنّ مقاربة الجبهة الشعبية للأزمة والحلول التي تطرحها لحلها مناقضة لمصالح تلك القوى, التي تعالى كثيراً صراخ أدواتها الإعلامية الذي يحمّل عبء الأزمة بشقها الاقتصادي لطرف المعارضة في الحكومة, في تعمية عن الأخطاء الكارثية المرتكبة بحق الاقتصاد السوري عبر عقود من التوجهات الاقتصادية النيوليبرالية المرتهنة للدول الغربية والتي كانت عبر التبادل اللامتكافئ تؤمن مورداً هاماً من موارد صفقات الفساد الكبير, الذي أزعجه كثيراً الحل البديل الذي طرحته الجبهة الشعبية عبر التوجه شرقاً, والذي هو توجه سياسي- اقتصادي وليس اقتصادياً فقط, من جهة, كما أزعجها أيضاً التوعية السياسية والشعبية التي تمارسها هذه القوة الوطنية بأنّه من المستحيل في ظروف الأزمة الحالية أن توجد حلول اقتصادية عادية بحتة للأزمات الاقتصادية, بل لا بدّ من حلول سياسية شاملة, وأمنية بالمعنى الحقيقي للكلمة, الذي يعني استعادة الأمان عبر المصالحة الوطنية الحقيقية, والحوار الوطني الشامل, والتي من مقتضياتها القصاص من هذه القوى الفاسدة والقمعية, ومن رؤوسها الكبيرة قبل الصغيرة.

إذاً لم يعد ثمة شكّ بصوابية وضرورة الخطوات الأساسية الفوق-اقتصادية كحد أدنى لإيقاف أو حتى إبطاء تدهور الاقتصاد السوري ومعيشة المواطن. وعلى رأسهما فتح خطوط التحويل المصرفية شرقاً لتجاوز حصار العملات الإمبريالية (اليورو والدولار), وتأمين استيراد المحروقات لسد الحاجة, في معاكسة للتوجه الخاطئ غرباً عبر عقود, هو أمرٌ لم يبدأ انجازه إلا بجهود وزراء الجبهة الشعبية المعارضة الوطنية داخل الحكومة. والخطوة الثانية التي مازالت مستعصية على الحلّ هي تأمين خطوط النقل, خاصة للسلع الاستراتيجة الحيوية للاستهلاك الشعبي, الوقود والغذاء, وهي مازالت مستعصية ليس بسبب قصور تأمين هذه السلع, فهي متوفرة في المرافئ, ولكن يتحمل مسؤوليتها كلّ من يتلكّأ في الحل السياسي الشامل والانطلاق بالحوار الوطني, وكلّ من يصرّ على أوهام الحسم العسكري والأمني, وتقطيع أوصال البلاد, سواءً من داخل الحكومة نفسها من الوزارات المعنية بهذه الجوانب, وأجهزة الدولة المعنية, أو من المعارضة المسلحة وداعميها.

إنّ كلّ من جنّ جنونه من التصريحات المحذرة من توقف الاقتصاد السوري بالسكتة القلبية في حال استمرار الأزمة دون الحل السياسي الوطني الشامل المطلوب, والتي تعكس الحرص على مصارحة السوريين بالحقيقة من باب احترامهم والخوف على مصلحة وكرامة الوطن والمواطن, والتي أدلى بها الدكتور قدري جميل بوصفه خبيراً اقتصادياً أولاً, وبوصفه أميناً لحزب الإرادة الشعبية وعضو قيادة الجبهة الشعبية للتغييروالتحرير ثانياً, ووزيراً معارضاً مسؤولاً في الحكومة ثالثاً, إنما كان هجومه المسعور هذا يعبر في حقيقة الأمر عن ذعره من إصابة قلب فساده المتضخمّ بالجلطة, في حال انقطاع الشرايين القذرة التي ترويه, على حساب قلوب أبناء الشعب المنهكة من الكدح, والمستنزفة باستمرار الأزمة. فالموت لقلب الفساد, ولتأكله الكلاب, وأما قلب سورية الوطن والشعب فسيتعافى وسينبض بقوة رغم أنوفهم.