التفجيرات الطائفية.. أداة جديدة لإدامة العنف
شهدت البلاد خلال فترة الأزمة سلسلة من التفجيرات التي وصفت بأنها تستهدف مواقع ومقار أمنية وعسكرية ذات صلة مباشرة إما في المواجهات العسكرية مع المعارضة المسلحة، أو في قمع المتظاهرين السلميين، أو في غيرها من ملفات الأزمة السورية. وعلى أرض الواقع أودت تلك التفجيرات بحياة الكثير من المدنيين الذين تواجدوا حولها بطبيعة الحال خلال حركتهم اليومية وذهابهم إلى أعمالهم، كما في تفجير «القزّاز» في دمشق وتفجير ساحة «سعد الله الجابري» في حلب.
وفي غالبية تلك التفجيرات أعلنت «جبهة النصرة» مسؤوليتها عنها، في حين تبنّى الجيش الحر ومجلس اسطنبول موقفاً مزدوجاً منها فكانا يتهمان النظام بتدبيرها في التصريحات الرسميّة، أما إعلامياً فيعربان عن رضاهما عن نتائج تلك التفجيرات في إيقاع الخسائر في صفوف الجيش والأمن. وهذا يعكس الموافقة المبدئية على هذا النوع من النشاط العسكري، ويعكس في الوقت نفسه الرغبة في التملص من المسؤولية عن الخسائر في صفوف المدنيين. وبهذه العقلية نفسها تعاملت بعض قوى ورموز المعارضة في الداخل مع بعض هذه التفجيرات وليس كلّها، وجاء موقفها هذا في إطار تبرير العنف المضاد لعنف النظام، ونتيجة لاعتقاد هذه القوى بأن هذا النوع من النشاط العسكري يكتسب تأييداً شعبياً، وتستند مؤشراتها في ذلك إلى أسلوب تعاطي مجلس إسطنبول مع التفجيرات من خلال بعض وسائل الإعلام كالجزيرة والعربية وغيرها. أما قوى المعارضة الوطنية في الداخل فقد أدانت كل هذه التفجيرات وذلك في سياق موقفها الرافض للعنف بكل أشكاله أياً كان مصدره، ولاسيما أن هذا النوع من العمليات العسكرية الكبيرة والمعقّدة غالباً ما تشترك فيه أطراف إقليمية ودولية تسعى إلى تغذية الصراع وإدامته وليس إلى حسمه لهذا الطرف أو ذاك، بما يبقي الدور السوري في المنطقة عاجزاً ومعطلاً. أما النظام فلم يخرج في تعاطيه مع ملف التفجيرات عن أسلوبه القاصر في التعامل مع الأزمة، من حيث اعتماده على الأدوات العسكرية البحتة، والمماطلة والتأجيل في البدء بالحل السياسي الشامل الذي يشكّل العسكري فيه جزءاً من المنظومة وتابعاً لها، فلم تكن التفجيرات في حساباته أكثر من فرصة لتسجيل النقاط على الخصم، وخطوة في مسلسل الإعلانات عن «الحسم العسكري» الذي حمّل الناس مسؤولية هذه الأعمال الإرهابية أكثر بكثير من إلحاقه الضرر بالقوى الحقيقية المسؤولة عن هذا الإرهاب..
بدأت في الآونة الأخير سلسلة جديدة من التفجيرات تستهدف تجمعات سكانية وبشرية وتحمل دلالات طائفية، كتفجير باب توما ومقام السيدة زينب وجرمانا وغيرها، وترافقت هذه التفجيرات مع مواقف دولية تكمّل في محصلتها النتائج السياسية المتوخاة منها، كإدانة واشنطن لتفجير باب توما دون غيره. هنا ينشأ سؤال مهم في ظرف الأزمة السورية الخاص: ما المطلوب من هذه التفجيرات الطائفية في هذا التوقيت؟؟
لقد كانت تفجيرات ما بعد الاحتلال في العراق في العام 2003 قد لعبت دوراً كبيراً في تخفيف الضغط على قوات الاحتلال الأمريكي ووجهت الصراع ليكون بين المكونات الطائفية الشعب العراقي، أما في سورية فالوضع يختلف إذ أن الانفجار السياسي والعسكري بدأ داخلياً في وقت لم تكن فيه البلاد جاهزة لملاقاته على مختلف الصُعد، إعلاميا وعسكرياً وعلى مستوى الحريات السياسية والوضع الاقتصادي- الاجتماعي، ربما كان العراق يمتلك ظروفاً أكثر سوءً ولكن الهجمة كانت فيه خارجية، وتلاها من الأحداث ما يشبه ما يجري في سورية اليوم من عنف وغياب للأمن والسلم والخدمات..
من خلال هذه المقارنة البسيطة بين البلدين ربما يمكن التنبؤ بإمكانية تكرار السيناريو العراقي ذاته معكوساً في سورية، مع فارق آخر أن إمكانية التدخل العسكري الخارجي في سورية باتت تتراجع باطراد، لذا فإن التفجيرات الطائفية تهدف بالدرجة الأولى إلى طي صفحة أي صراع سياسي، حالي أو مرتقب عبر العملية السياسية التي تشق طريقها موضوعياً ولكن ببطء، واستبداله بصراع طائفي يلغي المكونات السياسية ويحل محلها مكونات طائفية متخلفة، وبهذه الصيغة تكون المساومة على نقاط النفوذ داخل البلاد أسهل بين الأطراف المتشددة في النظام والمعارضة، ومن خلفها الأطراف الدولية الساعية إلى إعادة إنتاج النموذج العراقي في سورية..
تهدف الاستراتيجية الأمريكية في تعاطيها مع الملف السوري إلى إبقاء مستوى العنف مرتفعاً ومتزايداً دون وصول أي من طرفي النزاع إلى الحسم والانتصار النهائي على الطرف الآخر، وبنظرهم ينبغي لتكريس هذه الصيغة غذّ السير نحو تعميق الانقسام الطائفي، وهنا تلعب التفجيرات الطائفية دوراً كبيراً في تحقيق هذا الهدف، وذلك من خلال أدواتهم المتشددة التي دفعوا بها إلى غمار النزاع المسلح في سورية، وعلى رأسهم تنظيم «جبهة النصرة» الذي تبنى معظم تلك التفجيرات. ولا يعفي ذلك النظام أو قوى المعارضة من المسؤولية غير المباشرة عن الوصول إلى هذا الحد، إذ أن التأخر في البدء بالحوار وإطلاق العملية السياسية ونبذ العنف والتدخل الخارجي يفتح الباب واسعاً أمام تدمير البلاد وتمزيق وحدة شعبها..