الداخل الوطني رهينة نرجسية السياسات الخارجية
لو دققنا بموضوعية سياسات الأنظمة المتعاقبة على سورية منذ الإستقلال حتى يومنا هذا، لوجدنا أنها ودون إستثناء عملت على جعل القضايا الوطنية الداخلية رهينة للمناخات الإقليمية والدولية، ربما كحالة إنعكاس لتجذر وترسخ حالة التبعية في ثقافتنا ووجداننا نتيجة شطط فترات الإستعمار، أقله منذ بداية الخلافة العثمانية حتى خلاصنا من الإنتداب الفرنسي.
وإذا ما وجدنا ما يبرر هيولة اليقظة الشعبية، فإننا لا نجد تبريراً للخاصة النخبوية، إلا إذا قدرنا أن هذه النخبة التي صنعت الأنظمة لم تكن مقتنعة بالعمق الوطني والبعد الوجداني لهذا الإستقلال، وأنها انطلقت بحكم موقعها من فوقية معرفية لم تسمح لها أن تدرك قدرة طاقاتنا الشعبية الخلاقة على تجسيد هذا الاستقلال سياسياً كان أم اقتصادياً واجتماعياً.
لقد آثرت هذه النخبة على ترجمة فوقيتها المعرفية بجعل الهوية السورية أمانة أو رهينة للنزوات السياسية، وتحويل البلد سورية من بلد يطمح لإعادة تجذر هويته الحضارية إلى بلد لا يستطيع أن يحيا إلا بإطار المعادلات الخارجية عربية كانت أم إقليمية أو دولية !
إقتصادياً تحولت سورية، من بلد قادر ضمن غنى إمكاناته أن يعيش بمستوى مقبول من الرخاء رغم حداثة ولادته، إلى بلد الهجرات والأزمات الإقتصادية والسياسية؛ صحيح أن سورية عبر تاريخها المعاصر لم تمد يدها إلا نادراً لصندوق النقد الدولي طلباً لقروض ومساعدات، لكنها بالمقابل بنت برامجها على وهم مساعدات دول النفط الخليجي؛ وصحيح أن سورية لم تكن معوزة إقتصادياً ولكن الأصح أن كامل طاقاتها وخبراتها ويدها العاملة بدل أن توظف للتطوير والتنمية الإقتصادية المتوازنة قدمت رخيصةً وبتفاخر لتنمية دول الجوار العربي والخليجي بشكل خاص؛ وصحيح أن سورية قلما تعتمد على الخبرات الخارجية لكن الأصح أنها الدولة الأكثر تصديراً للعقول والطاقات الفنية بشكل هجرات مؤقتة أو دائمة.
لقد سعت جميع هذه الأنظمة لإعتماد خطاب سياسي مغلف بقناع قومي لتستر عجزها عن حماية وترسيخ مقومات الإستقلال الوطني للدولة والمجتمع... إهمال في تطوير مؤسسات الدولة الراعية لمصالح المواطن، هلهلة الأنظمة والقوانين، شخصنة الدولة والسلطة، غياب الرؤية والستراتيجية البعيدة للتطوير الإقتصادي الزراعي والصناعي.
هدر الطاقات البشرية وتهميشها، تراجع واضح في مستوى الإبداع والقدرات العلمية والفنية، إزدياد معدل الهجرة الدائمة نحو الغرب وتنامي تسرب الطاقات البشرية والثروات المالية نحو اسواق الجوار التي تطلب العمل والعمالة... وبالإجمال تحول البلد سورية من كونه تاريخياً سلة إقتصادية متكاملة إلى بلد البدائيات الإقتصادية والمهنية.
لقد عاشت سورية في ظل حلول نرجسي للخطاب السياسي إعتمدته النخبة الحاكمة في مختلف مشاريع البناء الوطني الذي كان بعد الإستقلال أحوج ما يكون للحرية والديمقراطية والإنفتاح على الطبقات الشعبية لإعادة تكوينه الحضاري.
إندفع هذا الخطاب على سطح السياسات في العقود الأربعة الماضية بذات التواتر الذي إندفعت به شكليات النهضة الإقتصادية التي لطفت من الشرعية القصرية لهذا الخطاب الذي تميز بالشطط السياسي القومي على الصالح الوطني، منهجاً لم يكن ممكناً أن يكون إلا بقلب المفاهيم، حيث سيطر الطابع الشخصي في معالجة الشؤون السياسية، الإدارية والإقتصادية، فاتحاً الباب لتطور نهج سوري خاص تحول عبر الممارسة إلى ثقافة عامة تغلب فيها الخاص على العام والفرد على الجماعة والذاتي على الموضوعي.
وفي عملية إسقاط لهذا النهج حدث هذا الحلول النرجسي في السياسة الخارجية، فأعطي كبير الأهمية للشأن الخارجي على حساب الشأن الداخلي الذي أهمل أو بأفضل الأحوال دفع للمرتبة الثالثة وذلك بجعل القضايا الداخلية من مهام الصف الثالث أو الرابع من القيادات السياسية ومن أعلن ولاءه دون ولاء، حيث احتلت هيبة وأمن المؤسسة الحاكمة المرتبة الثانية من ترتيب اولويات السلطة.
في هذا الإطار ونظراً لغياب الإرادة والرؤية السياسية الحكيمة لدى هذا الرتل من المسؤولين الذين بحثوا عن مصالحهم الشخصية دون مصلحة المجتمع والوطن، كان اللجوء للمعالجة الأمنية السبيل الأمثل لإلباس المجتمع قناع الإستقرار، فانعكس ذلك بتنامي الفساد حتى أصبح منظومة عضوية متكاملة مع كيان الدولة...
حسابياً وموضوعياً كانت وستبقى القضايا الداخلية أكثر إتساعاً وأكثر تعقيداً، في حين تكاد السياسة الخارجية أشبه بلعبة تحدد بمجموعة من القوانين والضوابط الدولية التي تسهل تطبيق هذه السياسات، ولا يشترط في هذه اللعبة إلا أن يتمسك كل لاعب بشروطه الوطنية ليأخذ دوره وحقه بالقدر المستطاع الذي تسمح به التوازنات الدولية، لكن التي تفرضها القوة الداخلية...
الموقف من الصهيونية كحركة عنصرية وغازية، العلاقة مع الدول الرأسمالية القديمة والجديدة التي تطبق السياسات الإحتكارية واللاهثة بتكوينها البنيوي للسيطرة على مصادر الطاقة، التحالف الإقتصادي والثقافي مع الدول الناشئة المماثلة ببنيتها ومشاريعها التنموية مع رؤيتنا ومشاريعنا في التنمية والنهضة... كل ذلك واضح ويمكن جعله بسيطاً لو أردنا، ودولاً كثيرة تعمل بهذا المنظور ولم يعرف تاريخها أنها تمترست وراء رداء المقاومة وحفر خنادق الصراع مع الآخرين لإنجاح سياساتها الخارجية.
في علاقتنا مع العروبة إعتمدت السياسات المتبعة على المراهنة بالداخلي وبالوطني لتثبيت موقعنا في الساحة العربية فلا نجحنا عربياً ولا حافظنا على قوتنا وإستقرارنا داخلياً. كان الداخلي والوطني ضحية ترجيح الخاص على العام حيث استهتر به إلى حدّ الإستخفاف والعبث.
التخطيط، التنمية، البناء، العدالة الإجتماعية، التربية، التعليم، الصحة، الضمان الإجتماعي والصحي، الثقافة، الكرامة، الإستقرار كلها قضايا وطنية لا تقاس ولا تدار بقواعد ثابتة ومتفق عليها كالقضايا الخارجية لأنها قضايا تفاعلية بين الدولة والمجتمع وتفاعلية مع الزمن وتفاعلية بين مكونات المجتمع بتعدديته الثقافية والتراثية وانتماءاته االفكرية والعقائدية.
أخطأ ألف وألف مرة من اعتقد أن القضايا الخارجية أعقد وأهم من القضايا الداخلية. إن إنتهاج سياسات مبدئية قائمة على أسس وطنية كانت كفيلة بمعالجة جميع القضايا الخارجية، لتأتي الحلول بعدها دون كثير عناء. ولم يكن ضرورياً إتباع أي منهج سياسي إستعراضي للقول بالعبقرية والحكمة السياسية إلا لأنه وسيلة من وسائل إبتزاز الداخل والخارج.
هنا في الداخل كان يمكن للحاكم أن يراهن ليفوز وإن فاز استمر وإكتسب الرضا الوطني، لكن ولصعوبة الرهان على النجاح الداخلي تم معالجة القضايا الوطنية بعقلية الأمر والنهي بإستخدام الآلة الأمنية بتشكيلاتها الحزبية والعسكرية، وإستدارت أنظاره وإهتماماته نحو الخارجي حيث الإستعراضات السياسية وحيث يستطيع الممثلون المهرة تسويق أنفسهم كصناع بطولات وشهود على التاريخ.
هكذا كانت إستمرت سياساتنا الداخلية منذ الإستقلال رغم تبدل الوجوه والتسميات والأشكال، وهكذا دخل الوطن بنفق الأزمات الوطنية المتلاحقة حتى وصلنا إلى طريق مسدود، تفرض الحتمية التاريخية الخروج منه لأنه لم يعرف شعباً عاش بحالة مماثلة أطول من ذلك، ولا يمكن أن نخرج إلا بإعادة ترتيب الأولويات وجعل القضايا الداخلية على رأس أولويات المهام الوطنية، ولنجاح هذه المهمة لا بد من مشاركة مختلف طبقات الشعب، أي إعادة الحق للديمقراطية بأن تجد مكانها في إدارة الدولة والمجتمع، أي رد الإعتبار للحياة السياسية السليمة؛ لكن قبل البدء لا بد من رد الإعتبار للمواطن، أي رد الإحترام والإعتبار لكرامته الإنسانية ولحقه بالعدالة ولحقه بأن يشارك في صنع القرار الوطني، بمعنى أوضح رد الحق للمواطن بأن يكون مواطناً لا مهاجراً وحاكماً لا محكوماً.