د.م عفيف رحمة د.م عفيف رحمة

ستة أجيال في حاضنة الأزمة السورية

ضمن مناخ من التحولات الدولية التي تسعى فيه الرأسمالية العالمية تعطيل ولادة النظام العالمي الجديد أو أقله بقاءها الطرف الأقوى فيه لإدامة تحكمها بالعالم وتحصين نفوذها السياسي والإقتصادي، أتت الأزمة السورية كمحصلة لحقائق موضوعية وتاريخية تحتم إستبدال النظام الإجتماعي الإقتصادي القائم بنظام جديد، قادر فعلاً على توفير الحرية وصيانة الكرامة وتحقيق العدالة الإجتماعية.

غير أن ضوابط الصراع العالمي التي فرضتها ولادة النظام العالمي الجديد، دفعت بالشأن السوري لتحوله من شأن داخلي إلى حلقة من حلقات الصراع العالمي ولتقلب الإحتمالات التاريخية للتغيير الديمقراطي إلى حتمية المجابهة المسلحة؛ واقعاً رفع من سوية التشتت والتباين في الرؤية الشعبية لهوية المستقبل وتحديد الأولويات المرحلية لدى النخب السياسية، معطلاً بالتالي إمكانية بلورة رؤية وطنية جامعة من أجل التغيير الديمقراطي للسلطة وقاعدة حكمها.

إجتماعياً وسياسياً إنقلب هذا التشتت والتباين في الرؤية إلى انقسام شاقولي في المجتمع وصراع إجتماعي يخرج عن إطار الصراع الطبقي، وإن كان يتسم في جوهره ببعدٍ طبقي، وعن الصراع الإثني والطائفي الذي وبسبب الإرث الوطني والتاريخي للمجتمع السوري لم يستطع حتى الآن أن ينمو ويتطور إلا في حدوده الضيقة.

خلاف وإختلاف ضمن الطبقة الإجتماعية الواحدة، بين أصحاب العقيدة الدينية الواحدة، في صفوف الفئات العمرية الواحدة كما وبين السويات الثقافية المتماثلة، أما الغريب تاريخياً فهو الإنقسام ضمن المدارس السياسية وتمثيلاتها الحزبية، فجميع الحركات السياسية القومية، العروبية، الوحدوية، الشيوعية، الدينية، منقسمة على ذاتها دون إستثناء.

المجتمع مجتمعان، موال ومعارض، راغب بإستمرار الموروث السياسي وطامح للتغيير، متفائل بالتحالف مع القوى العالمية الوليدة ومستعين بالقوى المهيمنة تاريخياً... تناقض يمس سلامة المنهجية الفكرية، فالفريق المؤيد للنظام القائم يتكىء على القوى العالمية التي ولدت بالتغيير، والفريق المتماهي مع العنف كمنهج في التغيير يتطلع لدعم من القوى العالمية التقليدية التي تقاوم ولادة العالم الجديد، متناقضة لا أخلاقية لا نجد مثيلاً تاريخياً لها إلا بتحالفات الغرب الانتهازية، اليمين الفرنسي مع الإشتراكي الألماني والإشتراكي الفرنسي مع الجمهوري الأميركي، وحالاتها المعاكسة...

ضمن هذا المنظور ترتسم الخصوصية السورية ببعدها السوسيو-سيكولوجي الذي يحتاج من علماء الاجتماع تفسيراً يوضح الرابط بين الأزمة وآلية تحرك الفرد في إطار جماعته التي كونتها المحطات السياسية التاريخية وما أنتجت من مناخات فكرية وثقافية ساهمت في تكوين وعيه الفردي في إطاره الجمعي وأضحت اليوم المحرك الرئيس لمشاعره وفعله الإجتماعي والسياسي.

هي جماعات لم تتكون في إطار التقسيمات التقليدية للأجيال، القائمة غالباً على معيار التناقض في الأمزجة، بل جمعها التماثل في المخزون المعرفي والثقافي الذي بلور موقفها السياسي وآل إلى هذا الإنقسام الشاقولي في المجتمع.

ربما هي المرة الأولى في تاريخنا حيث نحتاج إستئذان المدرسة الماركسية أن تتنحى جانباً، ولو مؤقتاً، لتترك المجال لفهم حركة المجتمع انطلاقاً من البنية الفوقية الثقافية والأخلاقية لا من البنية التحتية المادية الإقتصادية، فالفرد يتصرف وفق فهم مبرمج لجملة من القضايا، كيفية قراءة الأحداث وتقبل الحقائق الموضوعية، الموقف من النظام والتعامل مع الدولة والسلطة، قضية الوطني والقومي والعالمي، الحرية والعدالة، الانتماء والوطنية، السياسة والتحالفات السياسية، التغيير والثورة.... إلخ

هكذا تحول الصراع من صراع بين الطبقات الاجتماعية إلى إنقسام وصراع في صفوفها، وأضحى الصراع صراع قيم ومفاهيم في وطن تحول منذ زمن غير قصير إلى منطقة حرة واسعة، عرفت حدودها الإدارية بالدولة، وشُرعِن فيها نظام الإمتيازات والإستثناءات والمكرمات لا نظام المواطنة والحقوق والواجبات.

بنظرة تاريخية عامة يمكن أن نتحدث عن حقبة سورية معاصرة سماتها واحدة من لحظة الاستقلال حتى زمننا الحاضر، حقبة متشابهة في جوهرها رغم تمايز فصولها التي إرتبطت بست محطات تاريخية وُسم بآثارها المتباينة تباعاً ستة أجيال تعيش اليوم في قلب الأزمة الحاضنة لكل تناقضات هذا التاريخ المعاصر.

عبر هذه الفصول مجتمعة شهد المجتمع السوري بأجياله أعاصير الدولة والنزاع على السلطة والتناحر العقائدي والحزبي والتخبط في شكل النظام السياسي الإقتصادي الإجتماعي، مناخ لم يسمح باستكمال مقومات الهوية الوطنية ومعالمها التي خضعت للشهوات والنزوات القومية والدينية.

كان الاستقلال من الانتداب الفرنسي أولى هذه المحطات، الاستقلال الذي ترافق مع تنامي الوعي الوطني حيث وجد القوميون في المشروع الوحدوي ترجمة له قبل استكمال البناء الوطني، فجاءت المحطة الثانية الوحدة مع مصر وإشكالاتها التي أنهت هذه الحقبة بالانفصال ومهدت للمحطة الثالثة بداية سلطة البعث ونهجه «الإشتراكي العربي» الذي وجد موضوعياً نهايته بالمحطة الرابعة الحركة التصحيحية وما أدخلته من تغييرات في البنية الإقتصادية والسياسية والثقافية للمجتمع السوري، تلا هذا الفصل المحطة الخامسة وأحداث الثمانينيات وظهور العنف والعنف المضاد كحالة تاريخية وسمت هذه الفترة وتركت آثارها على الدولة والمجتمع حيث ترسخ الخيار الأمني كنهج للسلطة في تحصين قاعدة حكمها، منهجاً بنى لسورية درعاً واقياً لكنه لم يستطع منع الذاكرة الفردية والجمعية من اختزان انعكاسات هذه الحالة السياسية التي تعتبر اليوم حلقة من حلقات الأزمة، انتهى الفصل الخامس ليدشن للمحطة السادسة المستمرة منذ أكثر من عقد.

قدمت كل من هذه المحطات المفردات اللازمة لبرمجة الوعي السياسي للفرد ومستواه المعرفي، وفي كل محطة كان يتم تنامي الفرز المجتمعي الذي انتهى اليوم بالانقسام الشاقولي، ستة أجيال تتدرج بمخزونها المعرفي لكن تتناغم وتتكامل في موقفها من السلطة والنظام وفق انقسامها الشاقولي.

الأزمة وأسبابها، الموضوعي منها والذاتي، علاقتها بالخارج ومؤيداتها في الداخل، وسائل وزمن الخروج منها، الإستمرار مع الماضي أو الإنقطاع عنه، هل هي ثورة أم مؤامرة، هم ثوار أم متمردون، معارضة مسلحة أم إرهابيون ومرتزقة...، تساؤلات لم تتكون وفق الانتماء الطبقي أو البنية الثقافية والمعرفية السياسية بل إنساقت مجتمعة لتتفاعل مع الحدث وفق شروط هذا الانقسام ولتدفع بالفرد نحو الحالة ما قبل الطبقية لا بل ما قبل الوطنية في مجتمع باتت قيمه العليا الاستثناءات والامتيازات.

الصراع اليوم في حقيقته صراع من أجل استرجاع الإنسان لهويته وموقعه الوطني، صراع لا يمكن الخروج منه إلا إذا اتفقت القوى الوطنية بمختلف مشاربها على الانتقال إلى نظام يوفر لأفراد المجتمع المناخ  والشروط اللازمة للتفاعل المجتمعي الخلاق الذي ينقض نظرية الفوضى الخلاقة التي استفاد منها بعض القوى في الداخل أكثر مما في الخارج.

نظام سياسي جديد، وهوية جديدة للسلطة وقاعدة الحكم، قوى سياسية وطنية قادرةعلى الانتقال من المهاترات والتناحرات العقائدية إلى التفاعل الفكري والسياسي الديمقراطي، كلها مستلزمات أساسية لإعادة اللحمة الشاقولية واسترداد الهوية والانتماء طبيعتهما الوطنية، ولرسم برنامج يعمل على إحياء المواطنة المرتكزة على التنوع الثقافي والمعرفي والانتقال من أحادية الرؤية وإحتكار مصادر القرار إلى نظام التفاعلية والتشاركية السياسية التي لا بد أن تحرر القضايا الوطنية من النزوات السياسية والمشاريع الفوضوية التي سُخر من أجلها طاقات أجيال ستة تقف اليوم حائرة في سبل خروجها من الأزمة.