لكي لا نموت مع القديم..

تنزاح كثير من القوى السياسية والشعبية اليوم إلى الهاوية ذاتها التي سقط ويسقط بها الفضاء السياسي القديم، وتكرر أخطاؤه ذاتها. ربما علينا اليوم أن نستذكر هذه الأخطاء دائماً كي نجنب الوليد السياسي المقبل مطبّ الوقوع بها. وكان هذا الوليد قد جاء نتيجة تصاعد النشاط السياسي في أوساط الجماهير بعد قطيعة مع العمل السياسي دامت لعقود، وبعد نشوء تناقضات حادة عانى ويعاني منها شعبنا، وبعد تموّت الحركة السياسية القديمة وعجزها عن حل تلك التناقضات. أصبح هذا الوليد حركة شعبية في أيامه الأولى، وسينمو ليصير لاحقاً حركة سياسية جديدة ..

الحركة الشعبية هذه مدعوّة في سيرورة تحولها إلى حركة سياسية ألا تعيد أخطاء القديم، ولا تعيد إنتاج أدواته، لأن المكرر يموت، أما الجديد فقدره أن يعيش. وعلى هذه الحركة أن تنجز مهام الثورة الوطنية والديمقراطية، وألا تتحول إلى ثورة مضادة قاتلة..

 

سلمية الحركة الشعبية:

لم تكن مقولة السلمية ضرباً من الأخلاقية الإنسانية فحسب، بل كانت ضرباً من الواقعية أيضاً، وكان للحركة الشعبية مصلحة كبرى وحقيقية فيها. السلمية كانت دعوة لتجنب الانقسام العمودي الذي يُعمله العنف في ساحات التظاهر، كانت دعوة لقبول الآخر والاعتراف به، ثقافة جديدة تدخل على هذه البلاد وكان يجب لها أن تدوم. ولأن الحركة الشعبية كانت قدراً موضوعياً، وليس نشاطاً لثلّة من المارقين، كان يجب لسلميتها أن تدوم، فهي الرحم الذي ستنشأ منه الحركة السياسية الجديدة، وهي التي أنيط بها إحلال قيّم الحرية والديمقراطية وقبول الآخر، فكيف يمكن لها أن تكون عنيفة؟؟

ولأنها شكلت ضغطاً هائلاً على قوى الفساد الكبير، ولأنها كانت بسلميتها جامعة وشاملة، سعت هذه القوى إلى زرع ما يقتلها في رحمها، فوقع الاختيار على العنف..

تلقفت قوى أخرى خارجية حاقدة هذه النيّة، وربما بادرت هي إلى العنف، لم يعد هذا بذي أهمية بالنسبة للحركة الشعبية، فالنتيجة واحدة، وهي أن تقدّم المأجورون إلى الساحات، من الطرفين، يقتلون ويسرقون وينهبون، وتراجع أصحاب العقل والمطالب المحقّة..

النتيجة أن ما يحصل اليوم في البلاد هو ليس درساً في الإصلاح أو الديمقراطية أو الحرية، مثلما علمتنا السلمية، بل كابوساً ثقيلاً من العنف والقتل، وهذا ما يعلمنا أياه السلاح في غير مكانه الصحيح..

 

التدخلات الخارجية:

بعد محاولات إدخالهم في لعبة الضغوط الخارجية، والتوازنات الدولية، ومكرمات الأشقاء، القلق إزاء ما يجري في سورية ..ألخ، وجد معظم السوريين أنفسهم خارج دائرة القرار في هذه الازمة، اكتشفوا أنهم يتحولون رويداً رويداً إلى كمبارس في فيلم رعب كبير في وطنهم، وجدوا أنفسهم متسوّلين في مخيمات تركيا والأردن، يزورهم المحسنون كمن يزور حديقة الحيوانات، وجدوا أنفسهم شيوخاً وعجائز وأطفالاً يتباكون ويطلبون نخوة العرب والمسلمين على شاشات الجزيرة والعربية، رجالاً يعذّب ويهين بعضهم بعضاً آخر في مقاطع الفيديو، تمثيليات مضحكة تسخر مما يجري في وطنهم، مهاجرين ومنفيين في مطارات وحافلات تقلهم إلى بلاد غريبة وقاسية. وجدوا بينهم مسلحين بلحى، منهم تكفيريون يفجرون أحياء آهلة بالسكان، ومنهم شبيحة موتورون..

لم يرضخ النظام للضغوط الخارجية، ولم يشبع الأطفال حليباً لأن  المساعدات الإنسانية لا تقدم إلا لشبكات التجسس والإتصالات، أما العرب والمسلمون أباحوا الجهاد في سورية وأعتبروه في فلسطين خيانة..

 لم تقدم لنا التدخلات الخارجية لنا سوى شيئ واحد: المذلّة، التي رفضها الشعب السوري منذ اليوم الأول لهذا الانفجار الكبير..

لا للعنف، ولا للتدخل الخارجي: كلمات بسيطة لكنها عميقة، نطقت بها حناجر العقلاء، كانت هي وحدها دليل عافية بعض منّا لم تتلوّث طبيعتهم بالحقد والثأر المقيت، كانت الأداة للخروج من أزمتنا هذي .. لتعلمنا هذه الكلمات حل مشاكلنا بأنفسنا، لتردعنا عن التسوّل على أعتاب «الأصدقاء».. تبقي علينا أحياء كي يتسنى لنا إصلاح ما تخرّب بيننا.. ولتحفظ كرامتنا من بورصات الأعداء والسلاح..