القاعدة الاجتماعية للتغيير.. والفرز الوهمي!
دخلت ليبيا ومعها اليمن استعصاءً حرجاً منذ ما يقرب الشهرين، ولم تنجح حتى الآن أي من الانتفاضات الشعبية التي تلت مصر وتونس في تجاوز أزماتها المصنعة محلياً وخارجياً.. وبرزت في سياق القراءات المتعددة لأسباب وظروف الاستعصاءات المتتالية طروحاتجنحت نحو التسطيح وتفسير الماء بالماء، كالطرح الذي يفسر صعوبة التقدم بالإجرام الأمني وبمستوى العنف والعنف المضاد...الخ ، ومشكلة هذه التفسيرات أنها تغلق الباب أمام الإمكانيات الحقيقية للتغيير ، لأنها، ومن حيث تدري أو لا تدري، تقوم بتقسيم القاعدةالاجتماعية للتغيير وتحولها إلى جيوش متحاربة فيما بينها، لأنها وقبل كل شيء تطرح التغيير المنشود من أضيق زواياه وأكثرها تكثيفاً، أي من الجانب السياسي المباشر المحمول على شعار إسقاط النظام، في الوقت نفسه الذي تغيب فيه البدائل والبرامج السياسيةوالاقتصادية-الاجتماعية وحتى الوطنية الواضحة المعالم للتغيير المرتقب..
يبرز في سورية الفرز الوهمي للقاعدة الاجتماعية للتغيير بأكثر صوره فجاجةً، فبين مؤيد ومعارض، بين مع أو ضد، تضيع بوصلة التغيير.. والمقصود بالقاعدة الاجتماعية للتغيير أنها مجموع الناس الذين لهم مصلحة حقيقية بالقطع مع الماضي بفساده ومشكلاته وبالانتقالإلى واقع أفضل وأكثر عدالة، وبالملموس فهؤلاء يشكلون السواد الأعظم من الشعب السوري، أي ما يقرب من %80 على الأقل المتضررين من الفساد وبرامجه التخريبية في الاقتصاد أساساً وفي بقية المناحي الاجتماعية والوطنية والثقافية تالياً، فعنصر الأمن الذي يتقاضىراتباً هزيلاً، هو تحت الحد الأدنى لمستوى المعيشة، ما يزال مستعداً ومعبأً لقمع التظاهرات، لأنها وببساطة لم تستطع في نهاية الأمر إقناعه، ولم تمكنه من تجاوز انتمائه الفئوي نحو الانتماء الوطني الأوسع، ولم يأت هذا مصادفة، فالبنية التي كرسها الفساد في جهاز الدولةالسوري وفي المجتمع عملت بعقلية التمكين لاعتبارات غير وطنية ولشخصيات بمميزات محددة لا ترتبط بالكفاءة، لتعزز الفرز الوهمي الذي يصب في مصلحتها في النهاية، وبالمقابل فإن مجرد الاستقواء بالخارج، الذي برز في رفع الأعلام التركية في جانب والروسية فيالجانب المقابل، عقد عملية الفرز وجعلها تدخل في متاهات التوازنات الإقليمية والعالمية، وأصبح ضرورياً للخروج من الفرز الوهمي نحو اصطفاف وطني حقيقي إعادة تحديد الأعداء والأصدقاء، في الداخل والخارج، وعلى أساس البرامج المخبأة تحت عباءة التغييرالسياسي.. ففي الوقت الذي يتفق فيه الجميع على ضرورة ما يسمى بـ«التحول الديمقراطي»، المتمثل بسن قوانين مدنية حديثة تسمح للناس بالتعبير عن آرائهم وانتماءاتهم الحزبية والسياسية دون عائق أمني، فإن ما يغيب تحت الطاولة هو البرنامج الاقتصادي- الاجتماعيللقوى المختلفة، والذي يمثل نواة أي تغيير، ونواة أي موقف سياسي.. فلا يستوي أن تحدد موقفك الاجتماعي إلى جانب الجماهير الشعبية الواسعة، وتنهج نهجاً ليبرالياً في الاقتصاد وتحابي المؤسسات الدولية والمجتمع الدولي بصيغته المتغولة الحالية، وبالمقابل لا تستويعلاقتك بالمقاومة وقبولك بها ودفعك نحوها مع الاستمرار بالفساد وبتخريب الاقتصاد الوطني..
في المحصلة فإن الفرز الحقيقي للمجتمع لا يصبح أمراً واقعاً إلا على أساس البرامج المتكاملة، السياسية والاقتصادية- الاجتماعية والوطنية، وحينها سيتم تجاوز الفرز الوهمي، وستصبح القوة الموجهة نحو تغيير حقيقي قادرة على حمل التغيير في وجه القلة القليلة الرافضة له، فمنهم ضد التغيير حقاً، هم فقط المستفيدون من الوضع القائم، والذين لا تتجاوز نسبتهم الـ %20 من المجتمع السوري كحد أقصى، ولكنهم ما يزالون يتجاذبون شعرة معاوية في ما بينهم من جهة، وبينهم وبين بقية الناس من جهة أخرى، وسيحاولون الاحتفاظ بها قدر الإمكان وسيدفعونبكل قواهم واستقواءاتهم ليكرسوا الطائفية والمناطقية والشوفينية القومية وكل ما من شأنه أن يقطع مع الفرز الحقيقي، من هنا تأتي أهمية الحوار الوطني المعني بوضع كل شيء على الطاولة، والذي لا بد أن يترافق مع استمرار الاحتجاجات والمظاهرات الشعبية ونضوجها وتسييسهاوإيقاف كل أشكال قمعها المستمر حتى الآن، فهذه المظاهرات تشكل الضامن الحقيقي لتوجه الحوار وتوجه الإصلاح لاحقاً..
■■