سورية.. أزمة هيمنة الطبقة الحاكمة

تتناسب الهيمنة التي يحققها النظام السياسي مع درجة التوافق في المجتمع عليه، والهيمنة ضمن هذا المفهوم تتجاوز القدرة على تحقيق الاستقرار الأمني المباشر للبلاد، إلى تحقيق الاستقرار على الصعد الاقتصادية والاجتماعية والديمقراطية، وبالتالي بناء النواة الثقافية، التي ستشكّل روح وشكل هذا الاستقرار.

 

تمرّ عقود طويلة لا يحدث فيها أي شيء، وخلال أسابيع قليلة، تتصاعد الأحداث بشكل دراماتيكي، فتفجّر المعالجة الأمنية لأية حادثة بسيطة الاحتقان الشعبي المتراكم عبر عقود، ليتهّم النظام «منّدسين» بتضليل الناس، وكأن المنّدسين لم يكن لهم وجود من قبل، وكأن الناس ألعوبة بيد أي «منّدس»، متجاهلاً أن نزولهم إلى الشارع هو دلالة على انخفاض درجة التوافق عليه، إلى أدنى مستوى لها، بغض النظر عمّن ضلّل من...

من الوهم الاعتقاد بأن ما حدث في مدينة درعا والمدن الأخرى هو حدثٌ عابر، وسيتوقف عند هذا الحد، وأن القليل من الوعود والإصلاحات على الطريقة البيروقراطية، كفيلة بحلّ الأزمة على الأرض، ذلك يعود تحديداً إلى الطريقة التي عولج فيها الحدث، ففي مثل هذه الأوقات التي يصبح فيها المزاج العام للناس شديد الحساسية و التقلّب، يصبح التجاوز الأمني- البيروقراطي، للأزمة ذات العمق الاجتماعي، عاملاً يزيد تعقيد تلك الأزمة، ويساهم في نسف التوافق الاجتماعي حول هذا النظام، الذي يعتمد عليه في تحقيق هيمنته واستقراره الاجتماعيين. 

 فما هي طبيعة تلك الأزمة؟ وهل سورية بمعزل عن الموجات الثورية في المنطقة؟

 تعود الإجابة على هذا السؤال هنا، إلى العقود الماضية، وليس الأسابيع الأخيرة فقط، إلى منشأ ذلك الاحتقان المتراكم القابل للانفجار، فالنظام تاريخياً، ومنذ ستينيات القرن الماضي، مثّل بقيادة الحزب الحاكم مصالح البرجوازية الصغيرة السورية، التي تمثّل أكثرية سكان البلاد، وتم ذلك عبر العديد من الاصلاحات ذات الطابع التقدّمي آنذاك، كالإصلاح الزراعي وغيره، هذا بالإضافة إلى إعطائه مكاسب مجانية للطبقة العاملة كالنقابات، وجملة من القوانين الدستورية ضمنت جزءاً من حقوقهم، ضمن منطق اكتساب احتياطيات اجتماعية وجماهيرية جديدة، كضرورة لخلق استقرار سياسي بعد غيابه في مرحلة سابقة... كل هذا جعل الحزب يظهر فوق الطبقات، ويكتسب قواعد تنظيمية وجماهيرية واسعة، شكّلت توافقاً اجتماعياً منح النظام الاستقرار والهيمنة بكل أبعادها وجوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يضاف إلى كل ذلك الموقف الوطني تاريخياً الذي استمد رسوخه من تلك المكاسب الاقتصادية- الاجتماعية...

كل هذا بدأ بالتلاشي التدريجي والبطيء منذ أن بدأ الفساد يستشري في جهاز الدولة، منذ أوائل الثمانينيات كأدنى تقدير، ومنذ أن بدأ النهب الكبير للقطاع العام الذي هو أداة التوافق الاجتماعي الاقتصادية، للطبقة العاملة والبرجوازية الصغيرة وبقيّة الشرائح الوسطى للسكان. وكان ذلك عبر رموز الطبقة السياسية ذاتها، الممثلة لهذا التوافق.

ولم تستشعر الطبقة السياسية، سواءً في حزب البعث أو في أحزاب الجبهة، ذلك التآكل التدريجي لقواعدها الاجتماعية، وتغيّر طبيعة الولاء في القواعد الجماهيرية، من الاقتناع بسياسات هذه الأحزاب وممارستها إلى الولاء النفعي والوصولي، لا بل شمل هذا الأمر القواعد التنظيمية للأحزاب، وحتى القيادات الوسطى والعليا.

وفي السنوات الأخيرة بالتحديد، بلغ انزياح تلك الأحزاب عن قواعدها الاجتماعية والجماهيرية حدوداً قصوى، مع فشل مشروع التوافق الاجتماعي الكبير، عندما أخذ التشوه الرأسمالي لاقتصاد البلاد شكلاً رسمياً، بتبني السياسات الليبرالية، والشروع في تطبيق أجندة ما سمّي «اقتصاد السوق الاجتماعي»، الذي غدا حراً فيما بعد، بنهب الناس، وتسريح العمال، وخصخصة الشركات القطاع العام، الرابحة قبل الخاسرة، والتلويح بخصخصة حتى المرافق السياديّة (الكهرباء- المرافئ- المطارات...).

لم يلعب القصور المعرفي دوره في تجاهل انفضاض الجماهير عن الأحزاب، بقدر ما لعبت المصلحة الخاصة لبعض أعضائها، وتغيّر الوضع الاجتماعي لهم، وتكيّفهم مع فساد جهاز الدولة، ليشكّلوا درعه البيروقراطي الصلب، الذي اعتاد لاحقاً على المعالجة الأمنية عند محاولة احتوائه للأزمات الاجتماعية نتيجة انفصاله وعزلته الطويلة عن الجماهير، وكأن القوانين والفرمانات عصاً سحرية لحل الأزمات الاجتماعية وإسكات الناس.. وكأن التحكّم  بطموحات الناس وأمزجتهم تتغير بجرّة قلم في أروقة الدولة؟.

كل هذا آذن بموت هذا الفضاء السياسي برمتّه سريرياً، أي بقائه كهيكل وجهاز بيروقراطي يدير البلاد مع  زوال الصبغة السياسية عنه فيما يتعلق بدرجة نشاطه وتأثيره في الوعي الاجتماعي...

إذاً:  هي أزمة هيمنة، أزمة عامة للدولة، على الرغم من أن الناس لمّا تصغ بعد مطالبها، إلا أنها تتفق على مسألة واحدة، في هذه اللحظة بالذات، وهي مقارعة الهيكل كهيكل، والجهاز كجهازٍ فحسب، وبهذا الخصوص يقول فيلسوف الممارسة غرامشي: «إن أزمة هيمنة الطبقة الحاكمة تحدث إما لفشلها في مشروع سياسي كبير... أو لأن جماهير غفيرة قد انتقلت فجأة من الحالة السلبية السياسية إلى نوع من النشاط، طارحة مطالبها، وهي وإن تكن غير محكمة الصياغة إلا أنها في مجموعها تغذي الثورة. عندئذ نكون بصدد أزمة سلطة، وبالتحديد أزمة هيمنة». 

وبالنظر إلى ما جرى ويجري في بقية البلدان العربية من تحركات ثورية، وكيف أن أكثر الفاسدين قرباً من مركز السلطة السياسية غيّروا جلدهم في اللحظات الصعبة من زمن الأزمة، وتنكّروا للأنظمة التي شكّلت غطاءً يخفي فسادهم ونهبهم، وفي هذه الأزمة السياسية الحادة بكل المقاييس التي تمر فيها سورية الآن نتساءل: إذا بلغت أزمة النظام حداً حرجاً، ألن ينقلب الفاسدون من داخل الدولة وخارجها عليه، كمن انقلب من قبلهم، مراهنين على ركوب موجة ثورية آتية لا ريب فيها؟؟ أم أنه لن يبقى للنظام من مخرج إلا بالانقلاب على الفاسدين في داخله، قبل خارجه، وهذا أبخس الأثمان؟.