بانوراما الحراك الشعبي في درعا

شعارات الثورات العربية التي اشتعلت في شمال أفريقيا، تلقفها الحس الشعبي عندنا، مستخدماً لغة المزاح والفكاهة لينقلها ويترجمها على واقعه، وهو يعرف تماما أنها نتاج مكان وزمان وظروف أخرى مختلفة، ولكنه ربما أراد التعبير عن مشاعره تجاهها.. وكان يعرف أيضاً المسافة التي تفصل بين الجد والمزاح إلا أنه لم يتوقع ردة الفعل التي حولت مزاحه إلى حدث ساخن، فلم يخطر على بال التلاميذ وأولاد المدارس الصغار ما ستذهب إليه الأمور عندما رفعوا شعاراتهم المازحة لإسقاط الأستاذ..!!؟

الحدث الساخن الذي يجتاح سورية اليوم بدأ خجولاً رغم كل مبرراته الموضوعية، ولكنه تطور لاحقاً لحراك شعبي بدأت بوادره في محافظة درعا، واشتعلت شرارته على خلفية قيام فرع الأمن السياسي فيها باعتقال مجموعة من الأطفال اليافعين (حوالي 15 طفلا)، لا تتجاوز أعمارهم 14 عاماً حسب إجماع الشهادات، بتهمة كتابة شعارات ضد السلطة على الجدران، وتعذيبهم بوحشية شديدة، وصلت إلى حد نزع الأظافر!!؟

فوجئ الأهالي الذين طالبوا بإطلاق سراح أبنائهم، بردة الفعل العنيفة والمتغطرسة للجهات المسؤولة، فبدلاً من الاستجابة لطلبهم هددتهم باعتقالهم واعتقال نسائهم..!!؟ وأهينت أمهات الأطفال، وبدل التروي وحل المشكلة بروح المسؤولية الملقاة على عاتقه، رد المحافظ عليهم «انسوا أولادكم»!!. ولم تجد نفعاً محاولات وفود وجهاء العشائر الذين بادروا للتوسط وإنهاء المشكلة، بل كانت إهانتهم وطردهم سبباً أضيف إلى سلسلة التراكمات السابقة من الأخطاء والمشاكل المعششة في المحافظة بسبب سوء الإدارة وانتشار المحسوبيات وأخلاق الفساد، وجاء بمثابة الشرارة التي أشعلت تفاقم الاستياء الشعبي العام، فخرجت جموع من المواطنين في مظاهرات شعبية سلمية رافعة صوتها ومطالبة بكرامتها وحرية أبنائها، وتركزت هتافاتهم ضد اللصوص واللصوصية، ونادت بالتخلص من الفساد والفاسدين... وما كان من الجهات نفسها إلا أن قمعتهم وأسالت دماءهم لتنقل الحدث برمته إلى إحداثيات أخرى.. هذا ما كان..

انتشار النيران

المواطنون.. بل البشر الذين فاجأهم الرصاص.. فاجأهم حتى الذهول، سرعان ما انهار لديهم كل إحساس بالخوف أو بالتفكير الهادئ، فاستشاطوا غضباً وألماً، ورفعوا شعارات تندد بقمعهم وتطالب بالحرية، دون أن ينسوا أن يهتفوا باسم سورية.. وفي هذه المرة أيضاً كانت معالجة السلطات أسوأ من سابقتها، وأكثر خطراً، خاصة مع  استخدام النيران الحية الكثيفة والمركّزة ضد المتظاهرين مما أوقع مزيداً من الشهداء والجرحى بين صفوفهم، ثم لاحقاً ضد الحشود التي خرجت لتشييع جثامين الشهداء.. وهكذا كرّت السبحة، وتكررت المظاهرات يومياً، وتكررت أيضاً معها الاعتداءات على المتظاهرين، وقام عناصر الأمن بكل ما افترضوه صحيحاً لتفريقهم، تارة بالغاز المسيل للدموع والهراوات نزولاً عند التأكيدات والوعود الرسمية بعدم إطلاق الرصاص عليهم، وتارة باستخدام كل أنواع الأسلحة الحية لا نعلم نزولاً عند رغبة وغايات من، وكل ذلك بالمحصلة أنذر بكارثة وأزمة وطنية حقيقية لم تساهم معالجة السلطات الأمنية إلا بتسعيرها وتعميقها وانتقال لهيبها إلى مناطق ومحافظات أخرى..

الاحتدام والتصاعد

لعل أكثر ما يجب الوقوف عنده هو الإصرار على إسالة الدماء.. هذا أكدته الكثير من الوقائع المتشابهة في أكثر من مكان.. ولعل ما حدث في جامع العمري كان النهج الذي شابهته بقية الأحداث، فحسب ما ذكرته بعض المصادر أنه تم نقل عدد كبير من الجرحى إلى المسجد لمعالجتهم، إثر ارتفاع أعداد الضحايا والمصابين، واعتصم بعض الأهالي في المسجد لحماية الجرحى، فقام عناصر الأمن باقتحام المسجد بعد قطع الكهرباء على المدينة والفتك بمن فيه.. أما الإعلام الرسمي والذي كعادته آخر من يعلم بما يحدث داخل البلاد، فقد أورد في تقرير إخباري خجول بالتلفزيون السوري «أن تنظيما إرهابيا كان يحتل المسجد»..!! مؤكداً أن هناك أيديٍ مخربة وعصابات مسلحة بين المتظاهرين تلحق الضرر بالممتلكات العامة والخاصة، وتثير الشغب والذعر بين الأهالي.. بينما اكتفت وكالة «سانا» الرسمية بوصف ما حدث في درعا صباح الجمعة بأنه (تجمع من الناس تدخل فيه «مندسون» فحولوا مجرى التجمع في اتجاه آخر)..

وتتابعت الأحداث في المحافظة، وتوسعت دائرتها لتشمل معظم مناطقها وقراها إثر خروج الآلاف من الحراك وعلما والحريك وخربة غزالة وعتمان ومزيريب وقرى عديدة أخرى للالتحاق بالحراك الشعبي في المدينة، والتأكيد على مطالب إخوتهم المشروعة والمحقة، وبدل الاستماع إلى مطالب المتظاهرين، أيضاً أطلق عليهم الرصاص الحي فسقط منهم من سقط، بين شهيد وجريح، وتكرر المشهد ثانية عندما انتقلت التظاهرات إلى مدن وبلدات أخرى مثل داعل والحارة والصنمين وإنخل وغيرها، واتسعت دائرة التضامن والتعاطف الشعبي والجماهيري مع المتظاهرين ومطالبهم لتشمل محافظات ومناطق أخرى في البلاد.

المعالجة القاصرة

مع تصاعد الحدث، لم ترتق الحلول الرسمية إلى مستوى معالجته جدياً وعميقاً وبما يرضي الناس ويحفظ كرامتهم، واقتصرت محاولات الاستيعاب على بعض الوفود الرسمية التي أرسلت لتقديم التعازي والاستماع لمطالب الناس ومحاولة تهدئة الوضع ببعض الوعود التي لم تجد نفعاً. وفي هذا السياق أصدرت اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين في محافظة درعا بلاغاً تمت قراءته أمام الآلاف في المحافظة، أكدت فيه:

1 ـ إدانة الإجراءات القمعية للأجهزة الأمنية في مواجهة المتظاهرين، والتي أدت إلى سقوط أعداد من الشهداء والجرحى.

2 ـ وجوب المحاسبة الفورية للجهة التي أوعزت بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين، الأمر الذي يحدث ضرراً بالغاً بالوحدة الوطنية، ومعرفة من لديه المصلحة بعدم صون أرواح وممتلكات بلدنا بالوقوف بوجه التعبير السلمي للمتظاهرين.

3 ـ التأكيد على مطالب المتظاهرين بترحيل رموز الفساد في المحافظة ومن يحميهم.

4 ـ التأكيد على ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية وعلى مكتسبات الشعب السوري، ودعوة الجميع لعدم المساس بالممتلكات العامة لأنها لا تخدم إلاّ أعداء الوطن في الداخل والخارج.

بينما عقدت مستشارة الرئيس د. بثية شعبان، في خطوة لاحقة، مؤتمراً صحافياً أعلنت فيه إقالة محافظ درعا وعن نية الحكومة بإجراء حزمة من الإصلاحات، في محاولة لتخفيف الاحتقان الاجتماعي وامتصاصه، إلا أن ذلك وحده لم يكف، خصوصاً أنه لم يصر إلى إعلان النية عن حل المشاكل الداخلية للبلاد جذرياً عبر إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية، لأن القهر والفساد والاستهتار بالناس والاستهانة بكرامة المواطنين وتهميشهم وعدم تحقيق مصالحهم ومطالبهم المحقة سيؤدي إلى نتائج كارثية لا تحمد عقباها..

جدوى الحراك الشعبي

لن يكلل الحراك الشعبي الجاري ويفضي إلى تحقيق مطالبه الوطنية إلا إذا تطور إلى حراك وطني حقيقي بشعارات وطنية جامعة يستنهض كل القوى الحية والشريفة في البلاد ضد النهب والفساد والفتنة والأيدي الخارجية أياً كان مصدرها، ويشارك فيه المجتمع والناس وترد إليهم من خلاله حقوقهم وكراماتهم المهدورة. ويحاسب كل المقصرين والمسيئين أيا كانت مواقعهم، والاعتذار من أهالي درعا لما فقدوه، وللدماء التي أريقت، ومساندة أهالي الشهداء في مصابهم.

الحراك الدوماني..

 

واكبت مدينة دوما الحراك السوري منذ بدايته، فما بين جمعة وأخرى كانت أعداد المحتجين في تزايد، والأحداث في تصاعد دراماتيكي، ففي الجمعة الأولى وصل عدد المعتصمين إلى رقم تقريبي يقدر حسب تقاطع الشهادات إلى نحو 300 شخص، هتفوا بالتأييد لدرعا وأهلها.

أما بتاريخ 25/03/2011 وكانت الجمعة الثانية، فقد شهدت تجمع لنحو 2000 شخص من أهالي المدينة، خرجوا بأغلبهم من الجامع الكبير واتجهوا نحو ساحة المدينة حيث اعتصموا فيها، مرددين هتافات التضامن مع درعا وشهدائها، تؤكد على الوحدة الوطنية وسلمية المظاهرات.. وقد استمرت الاعتصامات حتى الساعة الحادية عشرة مساء حيث تقلص عدد المعتصمين إلى أٌقل من 500 شخص، تم تفريقهم بالرش بالمياه، وتدخل قوات حفظ النظام مع مدنيين، وتلا ذلك حملة اعتقالات واسعة طالت نحو 33 شخصاً.

يوم الجمعة تاريخ: 1/04/2011 بلغ عدد المتظاهرين حسب شهود عيان حوالي 3000 شخص، خرجوا من الجامع الكبير أيضاً، إلا أن الأحداث أخذت مجرى دموياً، حيث جرى إطلاق رصاص أردى 16 شخصاً، وأسقط العديد من الجرحى، تلته حملة اعتقالات واسعة. وقد تم الإفراج لاحقاً عما يقارب 90 منهم حتى الآن، أما المختفون فيقدر عددهم حسب أهاليهم بنحو 15 شخصاً.

أما جثامين الشهداء فقد سلمت في اليوم التالي مساء، وشهدت مدينة دوما يوم الأحد، أي بعد ذلك بيومين، تشييعاً حاشداً شارك فيه نحو 100ألف شخص، وشهد تنظيما عفويا من جانب أهالي دوما، الذين أعلنوا إضراباً عاماً في المدينة لثلاثة أيام، التزمت كافة فعاليات المدينة به، تلاه نصب الخيم في المدينة للاعتصام المستمر حتى لحظة تحرير هذا العدد .

ولا أحد يعلم على وجه الدقة ما سيحدث يوم الجمعة 8/04/2011.

■■