الشارع السوري وامتحان العنف

تقف الأغلبية السورية اليوم، أمام المشهد الجديد مصدومة ومشوشة، بعد أن أعطتها رياح التغيير دفعاً من الأحلام والأمل، وبلورت بدايات الحراك الشعبي تفاصيل عديدة، تأهّب فيها الناس ليملؤوا الشوارع التي يرتفع فيها العلم السوري، وترتفع فيها مطالب العدالة والحرية والمقاومة، وتخيلوا وروداً توزع، ولجاناً تنظم، ومطالب تتبلور، وصاغوا ردود أفعالهم، الكلمات والشعارات، وجهزوا صدورهم العارية..

لم يتوقع السوريون أن تنقسم الساحة الشعبية، وأن يلزموا منازلهم، خائفين، مستسلمين لوضع أصبح العنف فيه سيد الموقف.. الأغلبية الصامتة، ممن تهيبوا من الحراك، أو الذين شككوا به، أو حتى ممن ينسحبون منه.. تبحث عن جواب لسؤال واحد: العنف.. من يخدم؟

كلنا نرى أن الإجابة تبتعد عن الإجابات الحدية المتداولة سواء باتهام النظام بافتعال المؤامرة كلياً، أو باتهام الخارج فقط. ولن نستطيع الإجابة على هذا السؤال إلا بالبحث عن وظيفة العنف، ودوره المطلوب. يهدف التصعيد الدموي، والإعلامي، والطائفي منذ البداية إلى بلورة ساحتين أساسيتين، كل منهما تحاول أن تدفع الشارع السوري بأغلبيته المترقبة نحو تبني خيار العنف والدم. تتمايز الأطراف المتناقضة ظاهريا بقاسمها المشترك، وهو الطائفية كأهم الصواعق القابلة للانفجار في بنية المجتمع السوري، وعملت وتعمل على توسيع إطار التجنيد العقائدي وهيكلة بنيتها بناء على تشكيلات ما قبل الدولة الوطنية من طوائف وأديان. وعمل التطرف على تصعيد عملية التجنيد والتحريض وجاهزية الانفجار، إلا أن أبرز ما فعله حاليا هو توسيع دائرة التحييد.

العنف والعنف المقابل، الاحتقان والاحتقان المقابل، التجييش والتجييش المقابل، هو وظيفة هادري دم الشعب السوري منذ البداية، ورافعي السلاح، وهو ما سيكمله كل المجندين المغيبين، مؤطِراً الشعب السوري في كيانات طائفية، ومغيباً الشرائح الواسعة عن الصراع، وهو ما سيدفع البلاد نحو الفوضى والمجهول.

قد يتساءل الكثيرون عن ذلك المستفيد من حالة الفوضى التي قد لا تخدم النظام ولا تخدم الشعب، لكنها بكل تأكيد تخدم تلك القوى المتضررة من الحراك الشعبي الحقيقي المطلوب، الفوضى التي تهدف إلى تحييد الشريحة الأوسع وتأريض مطالبها المحقة، تاركة الشارع لصراع المتطرفين، محققة بذلك الحماية لمنظومات نهبها من الأفواه الصارخة والعيون المراقبة.

وحدها قوى الفساد الكبير هي المستفيدة من ذلك الصراع، فهي تمتلك القدرة على التكيف مع كل مفرزاته فيما لو بقيت بعيدة عن الاستهداف، إذ لن تتوانى عن تبني إحدى ساحتي الصراع أو كليهما، وتسعيره بالدماء النازفة، جاعلة من التهدئة أعلى مطالب السوريين، مستغلة غيرتهم على دماء وطنهم المسفوكة، التي فيما لو استمرت ستهدد بكل تأكيد الكيان السوري. يتصارع هذا الفساد مع منافسيه التاريخيين المتمثلين بفئات النهب الكبرى من البرجوازيين الموجودين خارج جهاز الدولة، أولئك اللاهثون وراء حصتهم من النهب، الذين قد يجدون في احتقان الشارع مدخلاً لوصولهم إلى تلك الحصة عبر بوابات مطالب الشعب بالحرية، وركوب الاحتقان الشعبي كوسيلة للضغط على النظام ودفعه للقبول بتوزيع آخر للحصص، حتى لو استدعى ذلك استخدام الضغط الخارجي أو التلويح بالتصعيد الطائفي كغطاء لأهدافها، فكلا الطرفين لا تعني له سورية إلا بمقدار ما تدرّ له، وما من رادع لهذه القوى إلا المارد الشعبي الحقيقي، المطالب بإصرار على اجتثاث كل القوى المتكاملة مع بعضها في عملية نهب الشعب. ربما طال الزمان الذي حُيّد فيه هذا الشعب، لكن منطق التاريخ يصر دائما على زج الشعوب في عملية بناء أوطانها المستقلة عن إرادة الطامعين، أولئك الذين هم حقيقة يتربصون بنهضتنا، فعلى من يريد ضرب تلك المشاريع المتربصة أن يختار التقدم سريعاً في تحقيق مطالب الشعوب معتمداً على قوتها المستمدة من إرادتها الحرة.

■■