أسامة دليقان أسامة دليقان

سورية والحرية

لا شكّ في أنّ شعار «الحرية»، الذي يتردد في كثير من التظاهرات التي تشهدها البلاد، هو شعار إشكالي، ويمكن أن ينطوي على دلالات شتى، قد تكون متناقضة أحياناً، ولكنّ الأكيد هو أنّ أغلبية الشعب السوري، وعلى مدى عقود، تراكم لديها مخزون كبير من المطالب المعيشية والاجتماعية، التي تمّ تأجيلها وتجاهلها من جانب الحكومات المتعاقبة، الأمر الذي أدى إلى الاحتقان، ثم ّ إلى الانفجار بنزول الناس إلى الشارع بعد يأسهم من القنوات الأخرى التي سدّت في وجههم للمطالبة بحقوقهم.

الأمر الذي لا تنتبه إليه السلطات في تعاملها مع القضية، هو أنّ التراكم الكمي لهذه المطالب قد أحدث جروحاً عميقة في كرامة المواطنين، وأفقدهم الثقة بالسلطات وبالجهات الوصائية، والتي عوضاً عن سعيها إلى استعادة ثقة الناس، حاولت في بادئ الأمر حلّ القضية بطرق أمنية، أهانت كرامتهم وعمّقت جروحهم، وزادت الطين بلة، وإذا كان قد ترتّب على الأفعال الأمنية ردود أفعال معينة من جانب الناس ذوي المطالب المحقة، فإنّ الملامة في ذلك لا تقع على الناس، بل على التعامل الخاطئ معهم ومع مطالبهم.

وكذلك لا يمكن إلقاء اللوم على عفوية الحركة الجماهيرية في تبنّيها، العشوائي أحياناً، لهذا الشعار أو ذاك، والذي إما تصوغه الجماهير بعفوية، أو تجده جاهزاً يلقى بين يديها في الشارع، والغريق كما هو معلوم يتعلّق بقشة، وإذا كانت الحركة الجماهيرية لم تستطع بعد صوغ شعارات أكثر وضوحاً تكثف فيها مطالبها الاقتصادية الاجتماعية، والوطنية، والديمقراطية، فالملامة في ذلك لا تقع على عاتق الجماهير نفسها، بل على القبر السياسي الذي دُفنَت فيه على مدى عقود، والذي بدأت اليوم تبعث منه من جديد، أسوة بجميع الشعوب، عربياً وعالمياً.

هذا ما جعل شعار «الحرية»، ليس مجرد هتاف عفوي فحسب، بل ومطيةً يركبها من يشاء، وينتقدها ويخوّف منها من يشاء، حتى وصل الأمر عند البعض إلى الإصابة بخوف مرضي تجاه هذا الشعار، ومنهم بعض البسطاء، من ضحايا شبكات الفساد التي زرعت ثقافة الخرائط الفئوية، والحدود الثانوية المقيتة، مما خلق الوهم عند أولئك الضحايا بأنّ الشبكة هدفها حمايتهم من خطر وهمي، مصدره «الآخر» الفئوي، الذي ليس هو في الحقيقة سوى الشقيق والشريك الطبقي الفعلي في فقره واستغلاله من كلّ شبكات الفساد بكلّ فئاتها.

إنّ الحرية بطبيعتها ملازمة للتقييد ولا تنفصل عنه، وعلى فقراء الشعب السوري وكادحيه أن يدققوا في الشعارات، لأنّ مصلحتهم هي في حرية عيشهم بمستوى لائق يلبي جميع احتياجاتهم الجسدية والفكرية، وهو أمر مستحيل تحقيقه دون تقييد للفاسدين ومحاسبتهم، ودون إعادة توزيع الثروة باستعادتها من ناهبيها إلى أصحابها المنتجين.

 

الحرية المطلوبة هي حرية القول والفعل:

«نعم لقطاع عام منتج ونظيف، ولا للفساد والخصخصة»..

«نعم للوحدة الوطنية، ولا للتفتيت» الديني، أو الطائفي، أو العائلي، أو العشائري، أو الإثني أو القومي..

«نعم لتشكيل أحزاب وطنية، ولا للأحزاب التفتيتية»..

«نعم لقانون انتخابات يعتمد النسبية، تكون فيه سورية دائرة واحدة»..

«نعم لحرية الإعلام الوطني، ولا للفساد الإعلامي»..

«نعم لتحرير أراضينا المحتلة بالمقاومة الشاملة، ولا للاستسلام، ولا للتطبيع»..

 

حريّة الإعلام والإصلاح

إذا تتبعنا سلوك الإعلام الرسمي، وتعامله مع الأحداث الداخلية الأخيرة منذ بدئها، نلاحظ وخاصة في الفترة الأخيرة، أنه يخصص مساحات واسعة من الوقت لفتح منابر لأصوات رجعية تمثل شريحة ضيقة من المجتمع السوري، شريحة تتكلم عن مفهوم لـ«أمن وأمان» يختزل الوطن والوطنية إلى مجرّد «دكان» في السوق نهاراً، و «حرملك» ليلاً، فضلاً عن التركيز على المواطنين السوريين العاشقين لقانون الطوارئ؟! وتقديم كلّ ذلك على أنه الصورة النموذجية عن المجتمع السوري، في تنازل واضح أمام بقايا رجعية العصور الوسطى، مما يعطي مبرراً لكل من يريد إهانة الشعب السوري، بالقول: «هل يستحق شعب كهذا حرية وإصلاحات؟! دعونا على ما نحن عليه، أفضل من إطلاق حرية المتخلفين». ويجري هذا في الوقت نفسه الذي يعطي فيه مَن «تحت إبطهم مسلّة» توجيهات بمقاطعة أو عدم تكرار الأصوات التي تتجرّأ على ربط الإصلاح بضرب ومحاسبة الفاسدين الكبار، الذين أوجد لهم الناس أوصافاً مستمدة من الثقافة الشعبية البسيطة، مثل وصفهم بـ«البطانة الفاسدة»، و«الأغنياء الذين فوق الريح»، و«كبار التجار وحيتان السوق» إلخ..، ومن أسوأ وأخطر ممارسات الإعلام الرسمي مؤخراً، التمييز بين شهداء الوطن الواحد، إذ نال شهداء الأمن والجيش الحصة التي يستحقونها من الاهتمام، في إعلان أسمائهم، وإظهار عائلاتهم على الإعلام، في الوقت الذي لا يمكن التغاضي فيه عن حقيقة أنّ جميع الشهداء مدنيين كانوا أم عسكريين، متظاهرين أم غير متظاهرين، هم شهداء الوطن، كلّ الوطن، لأنّ دم السوريين الشرفاء دمٌ واحد لا يتجزّأ.

إنّ هذه الممارسات تدلّ على أنّ هناك من يسعى عمداً إلى إحباط آمال الإصلاح، وزرع فكرة أنّ «مكتوب» الإصلاح «بائن من عنوانه»، مستفيداً من المستوى المتدني للثقة الشعبية بالإعلام الرسمي، كونه منبراً أساسياً لتواصل النظام مع الشعب، وهذا المنبر على ما يبدو حتى الآن، مستلَب من جانب القوى الفاسدة داخل النظام وخارجه، وضيّق على القوى الشريفة والنظيفة، الموجودة أيضاً داخل النظام وخارجه.

■■