متى يكون الإصلاح مخرجاً من الأزمة؟

متى تثق الجماهير بوعود الإصلاح؟؟

لا شك أن الفارق بين احتجاج البوعزيزي «احتراقاً» على تحطيم عربته، وبين مطلب إسقاط نظام بن علي في تونس، هو فارق شاسع يعكس تصاعداً شديداً في مطالب الحركة الجماهيرية في تونس.

في بدايات التحركات الجماهيرية العفوية في أوائل البلدان العربية التي شهدت الانتفاضات الثورية، لم تكن مطالب الجماهير وحركتها بمستوى الشدة نفسه الذي بلغته عشية سقوط نظامي مبارك وبن علي، ووصول اليمن وليبيا والبحرين إلى ما وصلت إليه من حالة استعصاء، فذلك الوليد المسمى تحركاً شعبياً، والذي كان أوّل نورٍ يراه في تونس هو ألسنة اللهب التي نالت من جسد البوعزيزي، كانت بنيته قد قويت، وعوده قد تصلًب، على وقع ضربات نظام بن علي، فما كان منه إلا أن عزمَ على اقتلاع الطاغية إلى غير رجعة، وعندها لم تنفع ابن علي وعوده ولا«إصلاحاته»، من إقالةٍ للحكومة وتعهدٍ بعدم الترشح للرئاسة بعد انتهاء ولايته..الخ. تلك الإصلاحات التي كان تأخرها أياماً يدفع بن علي ونظامه ألوف الفراسخ في عمق مقابر التاريخ...

المطالب كانت دائماً تبدأ بسيطة، ودائماً كان قمعها يهدر كرامة الناس ويزيد استياءهم، وبدلاً من أن يؤتي القمع والقتل ثمارهما، كان الحراك يتصاعد وتزداد حدته، وتبدأ الجماهير بصياغة مطالبها الأكثر عمقاً شيئاً فشيئاً وتتبلور المطالب بأشكالها الاقتصادية والسياسية، ثم لا تلبث أن تظهر المسألة الوطنية على السطح،  ويصبح تاريخ تلك الأنظمة في التفريط بالكرامة الوطنية بحد ذاته إدانة لها. كل هذا أدخل الأنظمة في أزمة حكم، وأظهر عجز الوسائل التقليدية عن السيطرة على الحراك أو حتى ملاقاته، ومما يثير دهشة الحكام هو أن تنازلاتهم التي لم يعتادوا عليها، والتي كانت قد تجاوزت بكثير المطالب الأولى للحراك، لم تعد قادرة على إخراجهم من أزمتهم، فقد أصبحت رقابهم هي المطلوبة الآن بدلاً من أي إصلاح كان مطلوباً في وقت سابق.

ومن الطبيعي أن تدهش تلك المعادلة حكامأ كانوا قد فقدوا خبرتهم في الحكم نتيجة العزلة الطويلة عن شعوبهم، والتفاتهم إلى مصالح الطبقات الغنية، ودعمهم لمافيات الفساد، وتسهيلهم للنهب الاستعماري لثروات أوطانهم على حساب شعوبهم، حتى أصابتهم لوثة الاستعلاء على المجتمع وقوانينه الموضوعية والتاريخية، فمن يجلس فوق ويمسك بزمام جهاز دولة كبير بعدّه وعديده، يصعب عليه تخيّل انتفاضات  «الجرذان والحرامية» - كما يروق لبعض الحكام تسميتها- وقدرتهم على قلب الطاولة عليه.

وتتلخّص تلك المعادلة البسيطة والمعقدة في آن واحد بأنه: عندما لا تصل وعود الإصلاح إلى مستوى المطالب الجماهيرية، فإن المطالب لن تبقى ساكنة بانتظار التنازلات التدريجية للحكام كما يظن البعض، بل سيرتفع سقفها في خضم النضالات والتضحيات اليومية والمستمرة بشكل متزايد باطراد، مما يساهم في ازدياد تعقيد الأزمة، وبالتالي تتعقد الحلول بدورها، وصولاً إلى حد التناقض التناحري بين الشعب والحاكم، وعندها لن يكون هناك أي حديث عن الإصلاح قبل رحيل الحاكم وحاشيته ومافيات الفساد المحيطة به. وهذا ما جرى في مصر وتونس واليمن وليبيا وغيرها.. فلو أن تلك الأنظمة استبقت حراك الجماهير بحزمة كاملة متكاملة من الإصلاحات الجذرية، وفتحت المعركة على الفساد لكانت قد كسبت تأييد شعوبها، والتحاقهم بثورة تأتيهم من الأعلى، ولكن على ما يبدو أن المشكلة لم تتعلق فقط بإدارة سيئة للأزمة بقدر ما هي مرتبطة ببنية تلك الأنظمة القائمة عضوياً على الفساد والتبعية والقمع...

إن حدس الشعوب العربية لم يخطئ في الكشف عن نوايا الإصلاح لدى حكّامها، فحين يعلن هؤلاء عن إصلاحاتهم، تأتي بمثابة تنازلات تكتيكية أمام تصعيد الحركة الجماهيرية، وليس إدراكاً للإصلاح كضرورة موضوعية للخروج بالبلاد من أزمتها، وكمعركة وطنية مع الفساد الكبير وقوى الظل والظلام، وكمعركةٍ من شأنها أن تلمّ جميع أبناء الوطن حول الإصلاح الحقيقي لكي يتبنوه، بل وليدافعوا عنه.

فالإصلاح الحقيقي في المحصلة هو فضاء يتحدد بثلاث إحداثيات:

أولها الجذرية، وهي التي تحدد فيما إذا كان الإصلاح حقيقيا أم مجرّد إجراء ترقيعي وتجميلي يهدف إلى تنفيس الاحتقان الاجتماعي القائم، فالجذرية تفرض على الإصلاح أن ينعطف بالحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للبلاد إلى مستوى نوعي جديد وبشكل نهائي لا رجعة عنه، وليس تغييراً بيروقراطياً لهذه الدائرة أو لذلك الموظف بما يبقي جوهر الأزمة على ما هو عليه..

وثانيها الاتجاه أو منحى الإصلاح اجتماعياً، وهنا تبرز المسألة الأقتصادية –الاجتماعية، فالإصلاح الجذري يقتضي إعادة توزيع للثروة على أساس ردم الهوة بين الأغنياء والفقراء، وتحقيق العدالة الاجتماعية والاعتماد على الموارد الداخلية تعزيزاً للموقف الوطني ودعماً لاستقلاليته، والإجراء الأهم في هذا الخصوص هو ضرب الفساد الكبير وفتح المعركة عليه، وهذا يتطلب المزيد من الحريات السياسية كعنصر لا بد منه لتوفير مقومات أي إصلاح..

وثالث الإحداثيات هو التوقيت، فمن الواضح أن مطالب الجماهير متصاعدة بيانياً بشكل مستمر ومتواصل، فالاستجابة للمطالب، وإن طابقتها، لن تنفع بشيء عند تأخرها، لأن المطالب تكون قد تجاوزت الإصلاح المطروح.

إن غياب أيّ من عناصر الإصلاح لن يكون إلا مقتلاً ونهاية لأي نيّة بالإصلاح، وإن كانت حقيقية، فلم يعد بالإمكان العبث بوعي الجماهير وتضليلهم أو تخويفهم أو تخوينهم أو قمعهم...

فإذا كانت حزم الإصلاح وعوداً زائفة فالجماهير قادرة على إدراك ذلك..

 وإذا كان الإصلاح حقيقياً بمكوناته الأساسية الثلاثة فإنه خيار الوطن والوطنيين والشرفاء..