الطائفية بوصفها ثنائية وهمية مدمّرة
ما الذي يحرك الصراع في المجتمع؟ ما العوامل التي تدفع إلى تكوّن الجبهات المختلفة؟ ما الذي يحدد نصرة أحد أطراف الصراع على الأخرى... وأين حراكنا وصراعنا من هذا؟؟.
البنى الاجتماعية المختلفة من مؤسسات وأحزاب، قوانين وتشريعات، أديان وطوائف وفئات .. وكل ما ينتمي إلى أشكال التفاعل الاجتماعي وأطره، تبطّن في جوهرها ما يمثل المحرك الأساسي للصراع تاريخياً وهو الاقتصاد، أي النشاط البشري الإنتاجي بعلاقاته، وتحديداً الموقع من ملكية أدواته وتوزيع ثماره. حيث تحدد الضرورات المتعلقة بمستوى تطور الإنتاج البشري طبيعة هذه العلاقات، وتحدد بالمقابل مستوى تطور أشكال البناء الفوقي التي تعكسها، وتجعل هذه الضرورات من طبيعة الإنتاج وعلاقاته التي تبقى ثابتة لفترات طويلة تبدو كالبديهيات أو الثوابت، وتحجبها بشكل مباشر عن الصراع، إلا أن ذلك لا يستطيع أن يلغي سيادة تناقضاتها كمحرك للتطور.
وفي اللحظات التي يتأزم فيها مستوى الصراع الطبقي، تصل الفئات المهيمنة على الثروة وأدوات إنتاجها، إلى المرحلة التي تخسر فيها هيمنتها الاجتماعية نتيجة اتساع رقعة الظلم والاضطهاد، وتتسع رقعة الاصطفاف الجذري في المجتمع، وهو ما يجعل من الفئات المستغِلة أقلية تفقد حلفاءها تدريجياَ، وتفقد عناصر نفوذها وسطوتها الفعالة.. فلا يبقى لديها في هذه المرحلة إلا إبعاد الاصطفاف عن الجذرية، وإبعاد نفسها عن أن تكون طرفا علنياً فيه، وهو ما يمكن أن يتحقق لها عن طريق اللعب على تناقضات الأطر الاجتماعية المذكورة سابقاً، حيث تشكل التناقضات غير الطبقية بينها خزانات تعبئة بديلة تعمل على تحويل الصراع إلى مكان آخر يفتت الجبهة الطبقية الشعبية المتضررة من الفئات المالكة المتنفذة، ويجنب الأخيرة الهجوم المباشر على منظومات ثروتها، ويتيح لها بقاء عوامل قوتها الأساسية والهيمنة اللاحقة على أطراف الصراع المتحاربة.
بمقاربة ذلك مع الواقع الطبقي في سورية، يجب الانتباه إلى أن التناقضات الأساسية إنما تكمن ما بين طرفين، أولهما يتمثل بالطبقات المالكة للثروة، والتي هي المستفيد الأكبر من توزيعها، مستخدمة أدوات عسكرية وسياسية وتشريعية وإعلامية وحتى دينية. وثانيهما الفئات الشعبية الواسعة المتضررة في كرامتها من كل هذه المنظومة. ونتيجة لاستعار هذا التناقض واحتمالات اتساع جذريته، ولدت ضرورة لدى الفئات المهيمنة باستبدال الصراع الطبقي بصراعات فئوية لاطبقية، أي إلى الثنائيات الوهمية، وهي الثنائية الطائفية في الحالة السورية، ليتحدد الحراك الشعبي في نطاقها الضيق، ويتم نقلها إلى المربعات الأولى للصراع وإعطاؤها الموقع الرئيسي، وهو ما لا يمكن أن يتم إلا بإشعال هذا التناقض الثانوي بالعنف والدم، وتحويل أطرافه إلى فئات إلغائية، وينتقل بذلك الصراع في الذهنية الشعبية إلى صراع وجود، مبعداً الفئات المهيمنة من فاسدين ومتنفذين وأصحاب ثروة عن الاستهداف، وموسعاً قدرتهم على التحريك والتحكم من خلف الكواليس محميين بالنزاع الشعبي- الشعبي، أو معتمدين على إلغاء الحراك شعبياً، حقناً للدماء.
فالتجييش المستهدف في سورية يلبي مصالح الفاسدين والناهبين على الرغم من تباين أهدافهم.
- فمن يتربع منهم داخل جهاز الدولة ومؤسساته، تحقق له الساحات الوهمية تحويل الشارع بعيداً عن الحراك ولجوء فئات واسعة إلى الاحتماء به، وبالتالي بقاء المنظومة بدون تغيير يذكر.
- أما الفاسدون وملاك الثروة خارج هذا الجهاز فسيخدمها التجييش بإبعاده عن استهدافها مباشرة، وستستخدمه في محاربة الفئات الأخرى كوسيلة ضغط لتوسيع حصتها من النهب.
- وبالنسبة للامبريالية كمنظومة للنهب العالمي، يحقق هذا التجييش والعنف مشروعها المطلوب بإقصاء المنطقة عن مشروع المقاومة الجذري، وتحويلها إلى دويلات وفئات متصارعة لا تستطيع البقاء إلا بربط مصالحها وتوجهاتها مباشرة مع قوى الرأسمال العالمي..
ومن هنا تتسع التقاطعات بين فساد فاسديـ(نا) باختلاف مواقعهم وبين الفساد العالمي، ويصبح تحويل الثنائيات الوهمية (الطائفية في حالتنا)، إلى ثنائيات رئيسية عن طريق العنف، مشروعاً مشتركاً سيعمل الجميع على السير به، وكلما تشابكت مصالحهم اتضحت الصورة في الساحة الشعبية، وازداد وضوح دور الوعي الاجتماعي متمثلاً بازدياد الترابطات بين القوى الوطنية الحقيقية والشارع، معيدة الصراع إلى مربعاته الصحيحة بما يخدم رص الصفوف في المعركة الحقيقية، مدعومة بمصالح الأرضية الشعبية المحكومة بشدة الاحتقان الاقتصادي- الاجتماعي، ومستوى الظلم والاضطهاد، ليشكل الصراع الطبقي الجذري البوصلة التي تحدد الاصطفاف إن عاجلاً أم آجلاً.