«الفشل البرنامجي» بمواجهة وضوح مهام «جنيف»
على وقع عوامل عديدة، منها ميزان القوى الدولي الجديد، وتمدد خطر «داعش» عالمياً، بموازاة بدء انكفائه في سورية، منذ بدء الضربات الجوية الروسية في أواخر أيلول الماضي، ظهر قرار مجلس الأمن الدولي 2254 ليشكل مفصلاً واضحاً في سياق الأزمة السورية، ومساعي إحياء مسار الحل السياسي لها عبر «جنيف»، وتثبيته مخرجاً وحيداً.
القرار، بعوامل ظهوره، وضع مختلف الأطراف السورية المتصارعة أمام استحقاق فشل برامجها وخطابها السابق، الذي كان قائماً طيلة سنوات عمر الكارثة السورية على شعاري «الحسم والإسقاط»، استناداً لمقولتي «المؤامرة والثورة»، بما تسبب فقط في زيادة معاناة السوريين، وفي ظهور وتكريس أمراء حرب، ليسوا ميدانيين فحسب، بل وسياسيين أيضاً، ومن مختلف الأطراف. أما الغالبية العظمى من الشعب السوري التي تبين لها الخيط الأبيض من الأسود، في نهاية المطاف، على خلفية دمائها النازفة في كل شبر من سورية، فقد باتت تنظر إلى هؤلاء جميعهم، فاغرة فاهها، لتشتم الجميع، متسائلة: من هؤلاء؟ ومن أين جاؤوا؟ وماذا ومن يمثلون؟ ومن نصبهم نخباً تنطق باسمنا؟ من سألنا رأينا فيهم أساساً؟
فشل مقابل وضوح
في الأحوال كلها، اضطرت أطراف الصراع في سورية، الأساسية حسب التوصيف التعويمي الإعلامي لها، للذهاب إلى جنيف3، على أساس 2254، ولكن مع اختلافه عن جنيف2 في تصويبه لشكل تمثيل المعارضات السورية. فظهرت طاولة «موسكو- القاهرة- أستانا»، وظهرت وفود أخرى ومجلس نسائي استشاري، رغم تمكن الولايات المتحدة إلى الآن من تغييب أطراف رئيسية من المعارضة السورية، وازنة ميدانياً في مواجهة «داعش»، وفاعلة سياسياً أيضاً في مناطق وجودها، مثل حزب الاتحاد الديمقراطي، ضمن محاولة مكشوفة من واشنطن استخدام ذلك كصاعق تفجير لصراع على أساس قومي- عرقي في البلاد، بعد انسداد الأفق بوضوح أمام الصراع على أساس ديني أو طائفي.
بيان جنيف1 لعام 2012، والقرار 2254 لعام 2015، وما بينهما من قرارات وبيانات دولية ذات الصلة بحل الأزمة السورية، شكلت أساس الدعوة التي وجهها المبعوث الدولي الخاص إلى سورية، السيد ستافان دي ميستورا، إلى المشاركين في جنيف-3 بدورته الثانية التي جرت في نيسان الماضي. وأوضح الرجل مسبقاً، وبناءً على متن 2254، العناوين ومحاور البحث في جنيف: جسم الحكم الانتقالي، والدستور، والانتخابات. وكلها مبنية، حسب جنيف1، على قاعدة مبدأ «التوافق والتراضي» أي بصيغ مشتركة، لا تنفي ولا تستبعد أحداً أو تضعه خارج القاعدة بصيغة الشروط المسبقة، باستثناء المصنفين دولياً على أنهم إرهابيين، مع تشديد مختلف الأطراف الدولية المعنية، بغض النظر عن تباين نواياها، على أن جنيف بحد ذاته هو محاولة لتوفير وتسيير مناخ ملائم «للسوريين ليقرروا فيما بينهم شكل سورية المستقبل» وأن «عملية الحل السياسي هي عملية يديرها ويملكها السوريون».
الأشجار العالية وحالة الإنكار
الجملتان الأخيرتان تتخذان طابعاً بلاغياً من الناحية العملية على أرض الواقع إلى الآن. وبغض النظر عن ذلك، فإن محاور وعناوين البحث في جنيف، كما أعلنها دي ميستورا، كانت واضحة، وهي التي سبقها في جولة شباط (التي لم يحتسبها المبعوث الدولي، والتي أفضى تعليقها إلى صدور القرار 2268 المتعلق بالهدنة والمساعدات الإنسانية) وفي جولة آذار أيضاً، حديث عام عن الانتقال السياسي وعن الملفات الإنسانية وإجراءات بناء الثقة. غير أن هذا الوضوح قابلته وقائع أخرى يمكن تلخيصها بأن من ذهب إلى جنيف اضطراراً، وتحت تأثير مستمر من «حالة إنكار» لا تريد أن تقر بحجم المتغيرات الدولية والميدانية التي أفضت إلى 2254، وما يعنيه من ضرورة نزول مختلف الأطراف عن أشجارها العالية، بقي فاقداً للقناعة الحقيقية بالبحث عن مخارج سورية الطابع بالمعنى الشامل، وواصل استناده إلى حساباته الضيقة، واصطدم بقوة عطالة خطابه وبرنامجه الإقصائي المنغلق السابق، وبقي أسيراً له في عقله الباطن وفي خطابه، إلى حد كبير، رغم الظروف الجديدة.
وعليه، كان أقصى ما يمكن لوفد الحكومة السورية، وهو الذاهب لمفاوضة من كان يرفض التفاوض معهم، من ضمن مجموعات أخرى، بشكل غير مباشر، خلافاً لخطابه السابق كله، هو قوله: أن البحث في جنيف لا ينبغي أن يمس بأي شكل من الأشكال القضايا السيادية السورية، بما فيها مقام رئاسة الجمهورية تحديداً، وأن صلاحياتنا لا تتعدى البحث في حكومة وحدة وطنية موسعة، هي الحكومة الحالية مضافاً إليها شخصيات من المستقلين والمجتمع المدني ومن المعارضة الوطنية (مع تحديد معاييرها)، وهذا ما يشكل سيناريو إجراء عمليات تجميلية لا أكثر، في فهم مغلوط للتوافق والتراضي، أي في سوء تفسير متعمد لجنيف1، وللقرار 2254، ولأساس الدعوة لجينف3، أي بما يصطدم بحقيقة وجوده في جنيف أصلاً..!
وبالمثل كان أقصى ما يمكن لوفد الرياض قوله، وهو الذاهب لمفاوضة من يدعي رفضه ومقارعته، وخلافاً لخطابه السابق كله، هو إعلان تمسكه بشرط الرحيل المسبق لرئيس الجمهورية الحالي، مع إطلاقه إشارات هنا وهناك أن مشكلته هي في هذا الأمر تحديداً، فلا يعود المرء قادراً على تحديد ما إذا كانوا معارضة للرئيس فحسب، أم للنظام ككل، الذي ينحدر منه عدد لابأس به من صفوفهم القيادية..!! وكذلك تمسكه بـ«الصلاحيات التنفيذية الكاملة» لما يسميها «هيئة الحكم الانتقالي»، الأقرب إلى سيناريو استلام مقاليد السلطة كلها ومباشرة بـ«الصيغ الثورية»، في فهم مغلوط للتوافق والتراضي، أي في سوء تفسير متعمد لجنيف1 وللقرار 2254 ولأساس الدعوة لجينف3، أي بما يصطدم بحقيقة وجوده في جنيف أصلاً..!.
المهمة باتت معروفة
إن المهمة الأساسية، أمام مختلف الوطنيين السوريين، أينما كانت اصطفافاتهم، وانسجاماً مع التوافق الدولي الذي يمليه التراجع الأمريكي، تتمثل بوضوح في كل من حقن الدماء السورية، والحفاظ على وحدة البلاد أرضاً وشعباً، وعلى سيادتها، وعلى الدولة السورية، ومواصلة مكافحة الإرهاب حتى اجتثاثه، بعد توحيد بنادق السوريين في وجهه. وإن كان الحال كذلك، وسط أزمة مستفحلة، ذات أبعاد داخلية متراكمة ومستجدة، وتداخلات وأطماع ومآرب إقليمية ودولية متباينة، فإن الإصرار على تبديد الجهود، وعلى المماطلة، ومحاولات التعطيل والتعليق، مهما كانت ذرائعها سامية، وحتى على شخصنة الأزمة السورية وسبل حلها، من هذا الطرف أو ذاك، ذلك كله هو استمرار في الإتجار بالدم السوري، وفي إدامة الأزمة، واختزالها والتشويش على حلها جدياً، بما يسمح بالمحصلة بمفاقمتها وإعادة إنتاجها دائماً. ومن نافل القول أن عداد الزمن على الأرض السورية تجري ترجمته على نحو لحظي بالدم والخراب والفقر والأسعار الدولارية واستنزاف الدولة والجيش، ليبقى أمراء الحرب هم المستفيدون/ المعرقلون بالمطلق، أياً كانت الشعارات التي يتلطون خلفها، مقابل بقاء خطر الإرهاب، وتفاقم الكارثة الإنسانية بملفاتها كلها (المعتقلون- القدامى والجدد، المفقودون، والمخطوفون، والمهجرون، والنازحون، واللاجئون، والمصابون، والتعويضات، والهدن والمصالحة، والحصار، وإعادة الإعمار، والعقوبات أحادية الجانب)، والتي تشكل كلها مادة رئيسية واجبة الحل عبر «جنيف».
الانتقال السياسي: معانٍ وعناوين
جنيف1، وجمله ما تلاه، وصولاً أساسات جنيف3، جميعها تتحدث عن وجوب قيام انتقال سياسي بالتوافق والتراضي في سورية، ولهذه العملية مفرداتها وآلياتها، بعيداً عن منطق «عمليات التجميل» أو «تبديل الطرابيش» أو «الاختباء خلف الإصبع». وهذا يعني أن على السوريين في جنيف الإقلاع عن كل ما يكلف السوريين مزيداً من دمائهم، والإسراع إلى تفاوض مباشر، جدي وندي وشامل التمثيل والبحث، يتناول، ويصل إلى تفاهمات ملموسة، حول المرحلة الانتقالية، من ناحية مفهومها (من ماذا إلى ماذا؟)، ومدتها وعناوين عملها وأولوياته، وحول جسم الحكم الانتقالي، من ناحية مفهومه وصلاحياته وشكله، مع التأكيد على وجوب تمتعه بمختلف الصلاحيات الكافية، لتنفيذ القرار الدولي 2254.
وإن ضمان الانتقال يفترض أيضاً إنجاز العمليات الدستورية والقانونية الكفيلة بتحقيقه، بما فيها التحديد الدستوري لطبيعة الجمهورية الجديدة، وما ينبغي عليها ضمانه لمواطنيها كافة، وحدود العلاقة المطلوبة بين المركزية واللامركزية، وتحديد طبيعة العلاقة بين مختلف السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وصلاحيات كل منها، وتمرير ذلك كله على الاستفتاء الشعبي، وكذلك القوانين المفسرة للدستور الجديد أو المعدل، بما فيها قانون الانتخابات، وتحديد صلاحيات ومرجعيات ومهام أجهزة الدولة المختلفة، قبل الانتقال لصناديق الاقتراع للانتخابات البرلمانية والرئاسية التعددية، قولاً وفعلاً، وعلى أساس برنامجي.
بين الاجتهاد والادعاء
وأياً تكن الاجتهادات في ذلك، يبقى واضحاً أن الحل المطلوب في سورية، إن أريد له استكمال التبلور وديمومة البقاء، هو حزمة متكاملة ومترابطة من ثلاثة محاور رئيسية، تتفرع عنها عشرات العناوين والملفات الفرعية المتداخلة. وهذه المحاور هي: الملفات الإنسانية كاملة، واستمرار مكافحة الإرهاب، وإطلاق عملية التغيير الوطني الديمقراطي الجذري والعميق والشامل، وهي محاور مرتبطة مع بعضها، على التوازي، وليس على التسلسل. وعلى السوريين الموجودين في جنيف أن يثبتوا سوريتهم بمعالجة هذا كله، بالتوافق والتراضي، بما يوقف العنف ويحقن الدماء، وبما فيه خدمة عموم السوريين الذين يدعون هم تمثيلهم.