اللاعب الروسي: نقلات إجبارية على «أوتستراد» الحل السياسي!
لا تزال تتدحرج مفاعيل القرار الروسي ببدء سحب القوات من سورية. وردود الفعل الدولية المتفاجئة، من واشنطن وحتى أصغر حكومات المنطقة، بدأت بالتكيف مع الخطوة، من حيث الشكل على الأقل، ولكّن السلوك السياسي العام لواشنطن أساساً ولغيرها من القوى يضع علامات شك كبرى حول مدى فهم هؤلاء جميعهم للمضمون الحقيقي للخطوة ولمعانيها وما سيترتب عليها..
يبدو أنّ لاعب الشطرنج الروسي، وليس غريباً أن الروس أسياد هذه اللعبة عالمياً، يبدو أنّ هذا اللاعب يفرض من خلال تحكم عالٍ جملة من النقلات الإجبارية على خصمه، ومعروف في الشطرنج أنّ دفع الخصم نحو خطوة إجبارية يستند إلى خطة تتضمن جملة من الخطوات التالية المحسوبة مسبقاً..
بهذا المعنى فإنّ الدخول الروسي على خط عمليات محاربة الإرهاب في سورية، كان نقلة أولى، تتبعها نقلة سحب القوات! ففي الأولى انتزعت روسيا زمام المبادرة في مسألة محاربة الإرهاب وأنجزت خلال فترة قصيرة أضعاف ما أنجزه تحالف واشنطن الدولي، الأمر الذي خفض إجبارياً الآجال الزمنية التي وضعتها واشنطن لإنهاء داعش من 30 عاماً إلى 10 أعوام ومن ثم إلى 3 أعوام، والآن يجري حديث عن اقتراب إنهاء داعش، حتى أنّ بعضاً من المحللين بدأوا بالحديث عن هذا الصيف بوصفه موعد إنهاء داعش!
في الوقت نفسه، دفع الدخول الروسي الحل السياسي السوري قدماً وبشكل متدحرج، فبعد الدخول الروسي جاء فيينا الأول والثاني وقرار مجلس الأمن 2245 واجتماع ميونخ والجولة الأولى من جنيف وبداية الجولة الثانية.
في هذ التوقيت بالذات جاءت النقلة الثانية، الانسحاب. ففي الوقت الذي لا تزال فيه أطراف متعددة سورية وإقليمية ودولية غير راغبة بإطفاء النار السورية، بل وبمد حريقها إلى الجوار الأقرب والأبعد، وفي جو مشحون من التصعيد العسكري المتعدد الأجنحة، يقرر الروس أنّ مركز الثقل ينبغي أن ينتقل باتجاه العملية السياسية، وهو ما يجري وضوحاً ويدفع بوفد الرياض «الشرس» إلى حمل الورود وإلقائها يمنة ويسرى، وهو ما يدفع قدماً حضور وتظهير أطراف المعارضة الوطنية الديمقراطية، ما يكسر احتكار الائتلاف لصفة المعارضة، ذلك الاحتكار المصنع بمقابل النظام السوري، بما يجعل محصلة الاثنين حرب بسوس تأكل الأخضر واليابس سورياً وإقليمياً وربما دولياً..
الروس أخذوا المبادرة بالدخول، وأخذوا المبادرة بالخروج، وأخذ المبادرة سياسياً وعسكرياً هو أهم تعبيرات انتقال مركز القوة العالمية نحوهم. إنّ «الجنوح إلى السلم» الذي يفرضه الروس اليوم، يستتبع ضمناً احتمال إجبار الأمريكيين على الدخول مع الروس ضمن تحالف دولي جديد موحد لمحاربة الإرهاب، وهذا يعني لجم الدول الإقليمية نهائياً عن سورية، وعن الأدوار والخدمات التي تقدمها للمركز الفاشي العالمي، وهذا يعني إنهاء الشكل الحاد من الصراع الروسي- الأمريكي، وتأريض احتمالات الحروب الكبرى لمصلحة إقرار دولي وإقليمي بأنّ العالم قد تغير وبأن الأوزان قد تغيرت ولا بد من التوافق مع المتغيرات.
الروس بخطوتهم هذه، التي يصعب فهمها على من يفكرون وفق إحداثيات «العالم القديم»، إنما يسحبون القوى المختلفة نحو ساحة تنفيذ القانون الدولي، ويحجّمون بذلك النزعات الفاشية الجديدة ويؤرضونها.
على المستوى السوري، فإنّ الخطوة تعني فتح «أوتستراد» الحل السياسي حتى أقصاه، وحتى نهاياته، وهذا ما تحاول قوى سورية متعددة التكيف معه، ولكن لسوء حظ البعض، ولحسن حظ السوريين، أنّ لافتات المحطة الأخيرة تشير إلى بوصلة الشعب السوري وليس إلى أماني الفاسدين الكبار وتجار الحروب والأزمات..