أيمن الشاهين أيمن الشاهين

في تحولات جهاز الدولة

على حد قول عالم فيزياء كبير: « يجب ألا نخشى قول أشياء معروفة مجدداً..»

جرد تاريخي (تاريخ حكم لا تاريخ شعب) :

حسب تعليق خبيث لصحيفة لبنانية في الستينيات «سورية يحكمها ثلاثة أطباء، لابد أنها مريضة» غاب الأطباء ولم يكن سبب غيابهم غياب المرض.. المرض الآخذ بالتوسع!
1961... البورجوازية السورية تسقط الوحدة، وتشكل حكومتها المعروفة لاحقاً بحكومة الانفصال، على أرضية رد فعل ضد آليات العمل خلال فترة الوحدة (تأميمات مجحفة بالدرجة الأولى،عمليات التطهير السياسية الواسعة، الإدارة الأمنية البوليسية المسيّرة لأمور الإقليم الشمالي، والتململ الواسع منها..)، حكومة لم تعمر لأكثر من سنة و نصف، لتسقط هي الأخرى على يد الإنقلابيين ذوي النزوع القومي في معظمهم.
تدخل الدولة السورية هنا مرحلة جديدة ميزتها الأساسية الاقتتال الفئوي حتى الاستقرار النسبي للنظام السياسي الجديد المتمثل بسيطرة حزب البعث على السلطة تماماً، الذي أخذ من حينه في التماهي  مع جهاز الدولة. تم تشكيل الجهاز الحكومي الجديد.. حكومة كانت معروفة إقليمياً و عالمياً بتشددها «اليساري»، إقليمياً اشتبكت مع نظام عبد الناصر في صراع أخذ شكل صراع المتشابهين، كما وهاجمت بعنف الأنظمة الرجعية العربية خاصة بعد الشك بتدخل تلك الأنظمة في الاقتتال الداخلي، أما داخلياً فكان استئناف الحرب الضروس ضد «الأعداء الداخليين» البورجوازية المنهكة بشكل رئيسي، والقوى السياسية الأخرى، مما عزّز بالتالي الانغلاق الداخلي والخارجي للجهاز الحكومي في بنية الحزب.
مفهوم معلب وجامد عن الصراع الطبقي، تم وفقه تمزيق البورجوازية وتحطيمها سياسياً وكمياً، مما أدّى إلى خلق فراغ مغر للبرجوازية الصغيرة الواسعة نسبياً لملئه شيئاً فشيئاً، في تناسب عكسي مع جزر البورجوازية الكبيرة المتواصل وصولاً إلى النهاية الفعلية والوظيفية لها في المجتمع السوري.

بإزاحة «الطغم اليسارية» صاحبة المفهوم المعلب ذاته للصراع الطبقي في الحزب الحاكم نهاية الستينيات، بدأت بالظهور ملامح عملية «سياسية» لتمتين أسس وهيكلة الدولة وفق الشعار اليساري ذاته لكن بنهج ليبرالي سينمو ويصبح أكثر فجاجة ووقاحة، أي بكلمات أخرى بدأ إكساء جهاز الدولة عن طريقة الانفتاح لتجاوز الأزمة السياسية الناتجة عن الانغلاق السابق، وكان الانفتاح خارجياً بإعادة فتح قنوات الاتصال الإقليمي و الدولي بحثاً عن الدعم المفقود لتفعيل جبهة الصراع العربي– الصهيوني، وداخلياً لجسر الهوة بين الدولة و المجتمع المتشكلة نتيجة آليات العمل الفوقي الدارج في دول العالم الثالث، تلك الآليات التي تعمل  خارج المنظور المصلحي والمطلبي لفئات واسعة من الشعب، آليات ستستمر زمناً طويلاً ويدفع الشعب والبلد ثمنها غالياً. هذا الانفتاح بحكم الظروف الموضوعية في الداخل السوري المتعلقة بالنسب الطبقية في البلاد على أثر الصراع السابق، كان محكوماً بالتعامل مع البورجوازية الصغيرة المتسعة أفقياً والصاعدة عمودياً باتجاه جهاز الدولة، وبالنتيجة فقد كُسي عظم الدولة لحماً تبين لاحقاً أنه مٌرّ على السوريين، البورجوازية الصغيرة بارتباطها بجهاز الدولة فرضت البيروقراط الآخذ بالانتفاخ، كما وفرّخت الكمبرادور المستفيد من الآن فصاعداً من توءمه في جهاز الدولة، شكلا معاً – البيروقراط + الكمبرادور– تحالفاً مقدساً حاضناً للفساد الكبير الآخذ بالتبلور، والجاذب للثروة من تحت أقدام السوريين، يَسمُن بها ويلقي بثقله فوق أجساد السوريين، متخفياً خلف انتعاش اقتصادي ظاهري امتد لأكثر من عقد، رأسماله الأساسي– لذلك الانتعاش – متدفق من الخارج، الآن وبعد عقود يرى الشعب السوري نتائجه شاخصة أمامه، رأسمال كان حلقة في سلسلة بتنا نعرف أين تنتهي، رأسمال لا يخرج في النهاية عن قاعدة «من يملك يحكم»، ففي ظهر القرار السياسي الوطني والسيادي كان ذاك يفعل فعله ببطء وجدية، وبالتالي قوى تحالف الفساد التي أصبحت ضاغطةً بوضوح تفرض ما تمليه عليها مصالحها من قوانين وتشريعات– كان قانون الاستثمار رقم 10 عام 1990 نموذجاً لأولى الاختراقات الواضحة نحو شرعنة اللبرالية ومدى سطوة قوى المال في القرار السياسي وجهاز الدولة–، حتى جاءت اللحظة الحاسمة لتثمير كل ذلك العمل بظهور حكومة عطري - دردري سيئة الذكر في محاولة لارتداء شرعية مسيطرة تشرعن بشكل حاسم توجهات الفساد الكبير داخل جهاز الدولة وتخلق كل الأدوات الاجتماعية والاقتصادية وحتى الثقافية لتبرير ذلك أمام الشعب.

 

الفساد- الطبقة و تمهيد الطريق إلى الفاشية:

انطلقت الحركة الاحتجاجية في 15/3/2011 – قد نتفق أو نختلف حول هذا التاريخ بالتحديد – في ظل ظروف دولية و إقليمية ومحلية حساسة ومفصلية. دولياً: تصعيد أمريكي في السنوات الماضية تجسد بشكل رئيسي في زيادة الدعم للكيان الصهيوني، وتوسع الانتشار العسكري حتى قزوين، توسع ارتبط بشكل عضوي بأزمة للرأسمالية مستعصية تنتهج افتعال النعرات والحروب كحلول لها– يؤيد ذلك كمية السلاح الضخمة الموجودة في المنطقة حيث يقدر حجم الدين العسكري في المنطقة بـ 12 تريليون دولار بين 1991 و 2010–، إقليمياً: عودة الجماهير إلى الشوارع محركة ثورة وطنية ديمقراطية شملت مناطق واسعة وهي في اتساع مستمر، محلياً: سبع سنوات عجاف مرّت على السوريين على أثر سياسات الليبرالية الاقتصادية، سياسات تخبرنا معرفتنا النظرية بالتجارب التاريخية لدول أخرى، و خبرتنا الملموسة كسوريين مآلاتها و نتائجها، إذ بتنا اليوم على يقين أن  برنامج تلك السياسات يعتمد مبدأ «دع الأغنياء يغتنون فهم قاطرة النمو».. من هم أولئك الأغنياء؟ تساءل السوريون.. أليسوا في معظمهم موضوعياً وتاريخياً، قوى وشخوص الفساد الكبير عبر تاريخ الدولة السورية الحديث..؟
تبدأ الحركة الاحتجاجية و يبدأ الفساد – الطبقة في الانتقال من مواقع الممانعة لأي إصلاح جدّي، إلى مواقع المواجهة  مدافعاً عن مكتسباته في مواجهة مد شعبي لم تحسن أجهزة الدولة المبقرطة التعامل معه وملاقاته، مما أجج الصدام، صدام كان مفيداً لقوى الفساد في صياغة استراتيجية التعامل مع الوضع من موقعها على يمين الدولة، فارضةً هيمنتها عليها قدر الإمكان  ومحوّرة الصراع وفق مصالحها باستخدام الدولة ومؤسساتها كأداة تنفيذ –  في الإعلام مثلاً تم وبشكل مركز إنكار الحركة الشعبية وتكريس شعارات مثل الحسم والاجتثاث والسحق تجاه الفئات الشعبية التي تحركت أولاً، واجتماعياً تم تحريض وتعبئة القاعدة الاجتماعية للنظام المنشود عبر أخذ هذه القاعدة إلى مستوى يتناسب ومصالحهم مستفيدين من الضرر المادي اللاحق بتلك القاعدة خلال الأزمة – وهذا ما يجري مؤخراً من خلال تصعيد واسع يرفع بالتالي مستوى القلق الاجتماعي موفراً بيئة مناسبة مصطنعة لأي تغيير شكلي، حيث الهدف من ذاك التصعيد إيصال الطبقة الأساسية المتضررة من الفساد – ال%90 من الشعب السوري – إلى مستوى من اليأس والإنهاك بحيث تكون جاهزة لأي حل يخلصها من «مغطس الدم» الذي يصدر إعلامياً واجتماعياً أنه قدر محتوم، وما يرافقه من «انشقاقات» الفساد الكبير كعملية إعادة تدوير وتبييض لرموز فساد كبيرة، مما يؤدي بالتالي إلى إمساك الفساد – الطبقة الدولة من حنجرتها مرة أخرى وباسم «الثورة المضادة» هذه المرة وعلى دماء السوريين.

 

برسم الحركة الشعبية والقوى الحية:

في خضم الصراع على إخماد الحراك، من أطراف مختلفة باتت معروفة، تتحمل الحركة الشعبية والقوى النظيفة والحية في المجتمع مهمة ومسؤولية تاريخيتين لا تقعان في إطار المستحيل، فالشعوب لا تضع نصب عينيها مهمات لا تستطيع تحقيقها، خاصة مع انقشاع الضباب الإعلامي الجالب معه شعارات كادت تقصم ظهر الحركة الشعبية، فضمن الظرف السوري جرى الحديث عن القنوات المغلقة بين الدولة والمجتمع، قنوات يتأخر فتحها من الأعلى بمعية البيروقراطية الفاسدة المشكلة لما يشبه نظام سدانة عليها، يدخل هنا دور المبادرة الشعبية الخلاقة في فتحها – تلك القنوات المسدودة – لتعشيق جهاز الدولة وإحداث عملية تمايز نوعية، بحيث يتم مستقبلاً تلافي الاعتلالات الوظيفية، فكما أن من مهام الدولة الأساسية حماية الوطن من الخطر، كذلك الأمر من بالنسبة للحركة الشعبية فإن من بين مهامها الأساسية حماية دولتها، بمساعدتها وبالرقابة عليها وتوجيهها في الطريق إلى استعادتها لتكون دولة لكل أبناء الشعب.
في إطار تركيز فاسدي النظام على الشعار الوطني شكلاً لا مضموناً عبر قول كلام حق يراد به باطل، و التركيز الانتهازي لفاسدي المعارضة على الشق الديمقراطي شكلاً لا مضموناً أيضاً عبر قول كلام حق يراد به باطل، كلا الطرفين تواطآ على الإهمال الكلي للاقتصادي– الاجتماعي الذي هو بمثابة ورقة عبّاد الشمس التي تكشف زيف وانتهازية مقولات وشعارات الفاسدين أينما وجدوا، هنا تحديداً تتوضح مهمة الحركة الشعبية في إعطاء المهام الثلاث، الوطنية والاقتصادية–الاجتماعيةوالديمقراطية، مضمونها و شكلها الثوري و الجذري عبر تلازم عضوي لتلك المهام.
الحركة الشعبية المنطلقة، تتعلم وتخطئ وتقف مؤقتاً لتتقدم مجدداً، كل أعدائها حاولوا ويحاولون ضربها بغية إيصالها إلى مرحلة يقول لسان حالها فيها: يا ليتني مت قبل كل هذا وكنت نسياً منسياً..
لذا يكون القول برسم الحراك الشعبي: سر في طريقك و دع النواحين والمتآمرين والمذعورين والمتذبذبين يقولون ما يشاؤون، فهذا هو وقت فعلك ووقت انتصارك..