المنظمات غير الحكومية.. ولاءاتها الحتمية و(لاءاتها» الكاذبة

المنظمات غير الحكومية.. ولاءاتها الحتمية و(لاءاتها» الكاذبة

تعرّف «المنظمات غير الحكومية» NGOs نفسها بأنها منظمات مجتمع مدني، لاربحية، ولاحكومية، ولاسياسية، ولاعنفية. وتعلن أهدافاً مثل بناء أو دعم «الديمقراطية»، و«الحريات المدنية»، و«العلمانية»، و«حقوق الإنسان»، و«تمكين» المرأة والطفولة، والحوكمة «الرشيدة»، إلخ. فأين تقع هذه التعريفات من حقيقة تلك المنظمات؟ هذا ما سنحاول أن نسلط الضوء عليه هنا بشكل عام.

 

نقد «اللاءات» الأربع

رغم العدد الهائل من المنظمات غير الحكومية وتنوع نشاطاتها عبر العالم اليوم، غير أن معظمها في نهاية المطاف يرتبط بسلسلة من الحلقات والوساطات بمنظمات أكبر وبدورها بصناديق تمويل كبرى متمركزة في الغرب الإمبريالي الأوروبي والأمريكي، كمؤسسات فورد، وروكفيلر، وكارنيغي، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID، والمنح الاسكندنافية. فهذه المنظمات ليست «غير حكومية» كما تدّعي، بمعنى أنّ لها ولاءً وتبعية للمموِّلين حكومات أو مؤسسات أو أفراد مما يسقط صفة «اللاربحية» عن هذه المنظمات.
ولأنّ المانحين مؤثرين كبار عادةً في رسم السياسات الدولية فإنّ صفة «اللاسياسية» المزعومة تسقط أيضاً عنها.
ولما كانت لجامات أفراس «المنظمات غير الحكومية» تنتهي في آخر مربط إلى ملوك الحروب الإمبريالية هؤلاء، لا يعود قناع «حقوق الإنسان» و«اللاعنفية» يصمد كثيراً على الوجه الحقيقي القبيح لتلك المنظمات، علماً أن كثيراً من الـ NGOs متورطة في تمويل وتسليح جماعات إرهابية محلية ودولية تقوم بحروب بالوكالة عن المراكز الإمبريالية المانحة المثال على ذلك أحيل القارئ إلى مقال سامر سلامة «ملف إعادة الإعمار في سورية (4): صراع المنظمات غير الحكومية والسلطات الأفغانية» – قاسيون العدد 703 – نيسان 2015).
هذا ما سمح لنا بفرضية أنّ «الرأسمالية اليوم تتنفس عبر خنق القوى المنتجة بيدٍ ترتدي قفازاً حريرياً أبيض من المنظمات غير الحكومية، وتخفي تحته قبضة حديدية سوداء من الفاشية الجديدة».
إذاً عملياً ترتبط «المنظمات غير الحكومية» بطغمة تشكل «حكومة ظل» عالمية واحدة ومركزية، دون أن يعلنوا ذلك، أو أنهم يعترفون بأن شبكة المنظمات هذه تشكل «حَوْكمة عالمية» لكن مع زعمهم بأنها حَوكَمة «رشيدة» حيادية وعادلة ومتساوية و«فوق الطبقات»، في تكرار لنفس الكذبة القديمة عن «الدولة» أو«الحكومة» التقليدية التي لطالما ادّعت بأنها «فوق الطبقات».

الدور التلاعبي لثنائية حكومي/لاحكومي

ثمة أساس موضوعي مكّن هذه الفكرة التلاعبية من اكتساب القدرة على التضليل والهيمنة، وهذا الأساس ذو شقين:

الأول يتعلق بالدولة بوصفها «جهاز قمع» لطالما كان يولد الكراهية لدى المحكومين، ولا سيما بانخفاض رضاهم عن دورها «كجهاز إدارة وتنظيم»، وتعذر استمرار الحكم إلا بتغليب الطاعة على القناعة، أو القوة الخشنة على الناعمة.
الثاني يتعلق بـ «آخر طبعة» من الدولة الرأسمالية الحديثة، التي أعيدت هيكلتها وفق النموذج الليبرالي الجديد، الترياق «الواعد» المزعوم لمشكلات الدولة التقليدية التدخلية (بعد أن أفسدت وكرهها الشعب)، فخُفضَ دورها التدخلي في الرعاية والدعم الاجتماعي، وأنيط باليد «الخفية» لقوى السوق. وباسم «الخيرية» تلعب «منظمات غير حكومية» دور تبييض أموال الفساد الحكومي والتهرب الضريبي في اقتصاد السوق المتوحش، وتُظهر نفسها «قطاعاً ثالثاً» مستقلاً ومنزّه عن كل من القطاعين: الحكومي العام والسوق الخاص.

«الدَوْلَتيَّة» كشكل تاريخي للحكم الطبقي

عدا أشكالٍ «استثنائية» قصيرة العمر نسبياً، فإنّ صورة عامة سلبية عن «الدولة» قد ترسخت في الوعي التاريخي للشعوب بنتيجة خبرتها مع مختلف أشكال الدولة:
دولة التشكيلات الطبقية قبل الرأسمالية (العبودية، والإقطاعية) كأداة أقلية طبقية لقمع الطبقات الأخرى..

«دولة الحداثة» الرأسمالية القومية لم تختلف عن السابقة كأداة قمع طبقي، إذ ما لبثت أن أنهت مرحلة طفولتها التقدمية القصيرة التالية مباشرةً لولادتها من رحم الثورات البرجوازية، حتى انتقلت من قمع الطبقات الرجعية الإقطاعية القديمة، إلى قمع الطبقة العاملة التي على أكتافها ورؤوسها صعدت، وقد أسفرت عن وجهها الرجعي هذا اعتباراً من أول أزمة فيض إنتاج رأسمالي بدايات القرن 19.

ومع الأزمة العامة للرأسمالية الإمبريالية مرت الدولة بالشكل الفاشي في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين وفق نماذج إيطاليا وألمانيا واليابان وإسبانيا..
مع صعود الحركة الثورية العالمية في النصف الأول من القرن العشرين ظهر على مسرح التاريخ أول نموذج للدولة – بعد كومونة باريس – جديد ومختلف نوعياً استطاع أن يصمد عقوداً في الفترة اللينينية – الستالينية، كأول ديمقراطية حقيقية، فكانت دولة طبقية ولكن لأكثرية الشعب، دولة «ديكتاتورية البروليتاريا».

تغيرت الدولة السوفييتية في المرحلة الخروتشوفية - الغورباتشوفية وذروتها الـ«بيريسترويكا»، الانقلاب البرجوازي على الاشتراكية، الذي أجهز عليها، وقضم من مكتسبات اجتماعية كانت حازتها الشعوب الثالثية.
دولة «ما بعد الحداثة» التي كرهتها شعوبها لتفاقم أزماتها الرأسمالية وإجراءات التقشف وتسريح العمال، والتراجع عن نموذج «دولة الرفاه»، الذي وجد تعبيره النموذجي في الدول الاسكندنافية، واعتاش مؤقتاً على نهب المستعمرات أولاً، و«رشوة» طبقته العاملة أمام تحدي تفوق «الشيوعية» ثانياً، ثم على نهب بلدان الاتحاد السوفييتي بعد تفكيكه، ثالثاً.

«اللادَوْلَتيَّة» كشكل جديد للحكم الطبقي

استغلت الطغمة المالية العالمية تلك الصور السلبية عن «الدولة»، ولا سيما بعد أن شوّهت تاريخ دولة «دكتاتورية البروليتاريا» لدى جيل كامل من شعوب الشرق والغرب، مما سهّل تمرير البديل «اللادَوْلَتيّ» أو «اللاحكومي»، بحيث يلقى القبول الاجتماعي والشعبي، على أنه «العلاج» لأمراض «الدولة»، محققة بذلك استمرار استغلالها وسيادتها الطبقية ولكن بوسيلة جديدة: «المنظمات غير الحكومية»، مع التعمية على كونها جزءاً من «المجتمع المدني» يخدم سيادة البرجوازية بنشر أيديولوجيتها وثقافتها، من أجل تطبيعها وتأبيدها بشكل «ناعم» ، بدور مضاد، ولكن بالوقت نفسه مكمّل، للدور الخشن لـ«الدولة بالخاصة»، أي «المجتمع السياسي». محققة بذلك ديالكتيك الهيمنة المتكاملة للطبقة السائدة بمجتمعيها المدني والسياسي معاً، أو«الدولة المتكاملة» كما سماها المفكر والمناضل الشيوعي أنطونيو غرامشي.

البديل الثوري في القرن الواحد والعشرين

في القرن العشرين مثّلت رابطة العمال الأممية، ونقابات العمال المستقلة، ومنظمات الفلاحين، وسوفييتات العمال والجنود، والأحزاب الثورية، أشكالاً لمنظمات «لادولتيّة» محلية وعالمية، تمثل الطبقات الثورية. كما كان «الاتحاد السوفييتي للجمهوريات الاشتراكية» شكلاً «دولتياً» لهيمنة الطبقة العاملة، البديلة عن الهيمنة البرجوازية القائمة. يبدو أن بناء الاشتراكية في القرن الواحد والعشرين يستلزم النضال من أجل هيمنة الطبقة العاملة بأشكال «لا دولتية» في المجتمع المدني، لكننا - بخلاف «يساريين» و«علمانيين» آخرين - لا نراه شرطاً كافياً، لأنّ «ممارسة الهيمنة الحقيقية على المجتمع بأكمله» تتطلّب «الاستحواذ على الدولة» كما قال غرامشي، متفقاً بذلك تماماً مع ماركس، أي لا بدّ من النضال أيضاً من أجل شكل «دولتي» لهيمنة الطبقة العاملة، التي لا تصبح «هيمنة متكاملة» إلا مع «ديكتاتورية البروليتاريا»، والتي يبدو أن لينين أيضاً قد فهمها كهيمنة تُكامِلُ بين الإكراه والتوافق، فأكد على أنها «لا تعني فقط استعمال العنف إزاء المستثمِرين»، بل وكذلك أنّ «البروليتاريا تعرض وتحقق نموذجاً للتنظيم الاجتماعي للعمل أعلى مما هو عليه في ظل الرأسمالية» في تمايز نوعي عن الإكراه في «التنظيم الإقطاعي للعمل الاجتماعي» الذي «يرتكز على طاعة العصا»، وعن «التنظيم الرأسمالي للعمل الاجتماعي» الذي «يرتكز على طاعة الجوع»، حسب لينين. ولهذا السبب بالذات عندما صارت الرأسمالية تفشل في فرض طاعتها عبر تجويعنا، لم تجد ما تملأ به جوفنا سوى أفكارها المنافقة التي تطعمنا إياها قسرياً عبر أنابيب منظماتها المدنية وغير الحكومية، فالـ«ديمقراطية»، و«العلمانية»، و«الإنسانية» الرأسمالية، حرفياً ومجازياً، لا ولن «تطعمنا خبزاً». أما أوراقها الكثيرة وقواميس مصطلحاتها الفخمة فربما تنفع في أن نشعلها لنتدفأ عليها في الشتاء.

آخر تعديل على الإثنين, 15 شباط/فبراير 2016 13:53