دفاعاً عن الجيش الوطني
لطالما كانت مؤسسة الجيش السوري تاريخياً مؤسسة وطنية جامعة، وحلقة هامة في الحفاظ على الوحدة الوطنية لسورية ككيان سياسي جغرافي متماسك. والدفاع الحقيقي عن الجيش السوري الوطني، إنما هو دفاع عنه ضد استنزافه وتوريطه كأداة في الصراعات الداخلية التي تجري لحسابات ضيقة بين المتشددين من أطراف الأزمة. وهذا لا يعني بأية حال تحييد الجيش بالمعنى السلبي، بل توجيه قوته المادية والمعنوية في الاتجاه الصحيح الذي لا بد أن يكون متناسباً مع وظيفته كجيش الوطن المدافع عن جميع أبنائه.
صون الجيش دفاعٌ عن الشعب
يكون الدفاع عن الجيش دفاعاً عن الشعب، لأنه يعني توجيه عمليات الجيش ضد أي اعتداء خارجي على البلاد، وخصوصيته في ظرف الأزمة تعني تأمين أكبر قدر من الاستقرار الأمني المناسب لحلّ الأزمة والخروج الآمن منها، عبر ضرب المسلحين الأجانب والمرتبطين بالخارج المنفذين عملياً لأجندته التقسيمية والتفتيتية ضمن المجتمع السوري عبر إثارة النزاعات الفئوية والطائفية وتسعيرها لمستوى العنف الدموي المسلح، وذلك بشكل متلازم مع ضمان حقوق المواطنين في التعبير عن الرأي بكل الأشكال المشروعة، وحمايتهم من تعسف أجهزة قوى الفساد.
هذا ما يجدر به أن يكون الجانب الأمني من الحلّ السياسي الشامل، خلافاً لما تروج له بعض أوساط النظام حول «الحسم العسكري» و«الحل الأمني»، لأنّ المضامين العملية لهذه العناوين كانت في غاية الخطورة وأثبتت فشلاً ذريعاً، وتعقيداً متصاعداً للأزمة بدل حلها، إذ أثبتت التجربة حتى قبل الأزمة أنّ هنالك ميلاً موضوعياً لدى القوى الأخرى - غير الجيش السوري - التي تحمل السلاح داخلياً سواء ضمن أجهزة الدولة، أو في المجتمع، لأن يتم استخدامها وتوظيف سلاحها بسهولة من أجل فرض جبروت قوى الفساد داخل الدولة وخارجها، بدلاً من فرض هيبة الدولة وسيادة القانون، وهذا ما يتجسد عملياً بما بات يعرف بالميليشيات المسلحة، المتشابهة فيما بينها من ناحية تسببها في تعقيد الأزمة ورفع منسوب العنف، والمختلفة شكلياً بالجهات التابعة لها من قوى التشدد في النظام أو المعارضة.
ونظراً للفوضى في استخدام السلاح وما يتسبب به من خسائر وإزهاق لأرواح السوريين، لا بدّ من التأكيد على ضرورة حصرية حمل السلاح بيد مؤسسة الجيش الوطني السوري فقط، مع استقلالية قراراته عن أية تشويشات أو معلومات مضللة يمكن أن تؤثر سلباً على وظيفته، ولاسيما بعد الفضائح المجلجة والخروقات المشينة التي كشفت الأزمة عن حجمها الهائل ضمن بعض الاجهزة الامنية، والتي لطالما حذر منها كثير من الوطنيين الشرفاء منذ زمن بعيد، ليس بناءً على ظواهر ملموسة مباشرةً فحسب، بل وكذلك بسبب توقّع وجودها موضوعياً بسبب انتشار وتفاقم الفساد داخل أجهزة الدولة عموماً، ونتائجه الاقتصادية- الاجتماعية الكارثية على مرّ العقود الماضية دون أية خطوات جدية لمكافحته.
أساليب تشويه سمعة الجيش
نرى اليوم كيف تتسبب قوى الفساد الداخلي والخارجي عبر عملائها ضمن تلك الأجهزة بمزيد من سفك الدم السوري وتدمير البنية التحتية، عبر تضليلهم للجيش، لتوريطه بأخطاء فادحة، ترفع التكلفة البشرية والمادية عليه وعلى الشعب معاً، وتتيح لهم استثمار تلك الأخطاء إعلامياً عبر تشويه سمعة الجيش. ولا بدّ في هذا السياق للانتباه إلى أنّ أساليب تشويه سمعة الجيش السوري الوطني عبر توريطه في الصراع بين ميليشيات الفساد المتكالبة على السلطة والثروة، لا تقتصر في شقها الإعلامي على ما تبثه وسائل إعلام خارجية، بل يبدو أنّ تلك القوى الفاسدة نفسهاالتي تورط الجيش ميدانياً، تقوم كذلك عبر فرعها الداخلي (الفساد داخل جهاز الدولة)، بالخلط المتعمّد والمقصود بين عمليات الجيش من جهة، وعملياتر ميليشياتها المسلحة من جهة أخرى، على مبدأ تلطّي الأسود خلف الأبيض، والقذر خلف النظيف. وبات جزء لا يستهان به من خطاب الإعلام الرسمي، وشبه الرسمي، رهينة لهذا النوع من الخروقات الإعلامية.
المؤسف أنّ بعض الإعلاميين، رغم وطنيتهم وحسن نواياهم، لا ينتبهون دائماً إلى هذا الأسلوب، فعلى سبيل المثال لم ينتبهوا إلى تلك الرسالة الرمزية السيئة التي ظهرت على شاشات الفضائيات السورية الرسمية، في السادس من تشرين الأول الأسبوع الماضي، بمناسبة ذكرى الحرب، إذ تم تمرير شريطين أسفل الشاشة، أعلاهما يستعيد الأنباء المشرّفة للانتصارات التي أحرزها جيشنا في تلك الأيام ضدّ العدو الصهيوني، وبالمقابل يظهر الشريط السفلي أنباء عن اشتباكات وعمليات جيشنا حالياً في ظلّ الأزمة الراهنة. بين الشريطين الزمنيين الذين تمّ جمعها في مكان واحد يبقى الجيش السوري هو نفسه، ذلك الجيش الوطني الأبي، لكنّ المفارقة هي أنّه في حرب تشرين كان جيشنا يستنزف العدوّ الصهيوني ويلحق به الضربات الموجعة، أما في الأزمة الحالية فالجيش يتمّ استنزافه بتوريطه في معارك داخلية لأزمة حلّها الجذري والوحيد حلّ سياسي شامل بالدرجة الأولى. أفلا يبعث تصوير استنزاف الجيش والشعب على أنّه «انتصار حاسم» عبر هذه الرسالة الإعلامية، على الشكّ بنوايا وغايات من يبثّها عن سبق الإصرار والترصّد؟!
القضية الوطنية والمعارضة المسلحة
بالمقابل يتعرى كذب ونفاق تلك الجهات من المعارضة المسلحة والسياسيين المؤيدين لها، أو الصامتين إزاءها، فيما يتعلق بالمسألة الوطنية، وقضية الصراع مع العدو الصهيوني، وذلك من خلال تنفيذهم على الأرض لعمليات لا تستهدف الكادر البشري والعلمي فقط ضمن مؤسسة الجيش الوطني، بل وكذلك العتاد والأسلحة الحربية، الأمر الذي يوصلنا بمجرد محاكمة عقلية بسيطة إلى مفارقة ساخرة من هذا السلوك، إذ كيفَ يستقيم ويستوي أن يدعي أولئك حرصهم على سورية وشعبها وأمان البلاد، وفي الوقت نفسه يقومون باستهداف وتخريب ركن أساسي من أركان الدفاع ضد أعداء هذا الشعب التاريخيين وعلى رأسهم الكيان الصهيوني والولايات المتحدة الأمريكية؟! لا يمكن تفسير ذلك بأنه غباء طبعاً، بل هو عمالة وخيانة للوطن والشعب السوري، لأننا حتى لو افترضنا وفق سيناريو ما بأنهم على خلاف مع قيادة الجيش السوري، فما هو مبرر استهداف المؤسسة بحدّ ذاتها، والتي هي قبل كلّ شيء ومنذ فترة الاستقلال الوطني لسورية، مؤسسةٌ من الشعب وللشعب، وليست ملكاً لأي نظام سياسي، مهما حاولت الأنظمة ادّعاء ذلك، بل أنّ الحكومات والأنظمة كانت تتغير، تأتي وتزول، وتبقى مؤسسة الجيش السوري محتفظةً بدورها وعقيدتها الوطنية الراسخة منذ ميسلون مروراً بتشرين ودعم المقاومات وحركات التحرر الوطني في فلسطين، ولبنان، والعراق.
إنّ الجيش السوري كمؤسسة يتمتع بخصوصية لا تملكها أية مؤسسة أخرى في الدولة، خصوصية تجعلنا نفهم لماذا هذا الهجوم الشرس عليه وبأشكال متعدده من كلّ حدب وصوب، وهي أنه جامع في تركيبته وبنيته البشرية لجميع أبناء الشعب السوري دون تفريق - هل من داعٍ للتذكير بأنّ معظم الشبّان السوريين يؤدون الخدمة الإلزامية في هذه المؤسسة ويشكلون الكادر البشري الأكبر والأهم فيها. ومن جهة أخرى فإنّ سلاح الجيش البري والبحري والجوي يعتبر ثروة وطنية، حصل عليها الشعب السوري بعمله وعرق جبينه، ودافع عنها بدمه، ومن يدمرها مدّعياً «حماية الشعب» إنما يسفك جهد الشعب ودمه مرات إضافية، ولا نتيجة لذلك سوى تجريد الشعب السوري من أحد أهم أسلحته، وتحقيق الأماني الإمبريالية والصهيونية وأمثولتهم التي لسان حالها اليوم أنّ «السوري الأعزل هو الأفضل»، وأنّ «السوري الطيّب هو السوري الميّت»!