هل ينحصر مفهوم المعارضة بحدود «لا»؟؟

يسود تصور واسع لدى الشعوب عامة، وشعوب بلدان العالم الثالث خاصة، بأن مفهوم المعارض أو المناوئ لأي نظام سياسي قائم هو مفهوم يمتد صداهُ ليشمل كل من يقف بنفَسٍ ثابت وعزيمة لا تلين ويصرخ بأعلى صوته: «لا». وقد ساهمت وسائل الإعلام- بعضها عمداً والبعض الآخر عن غير قصد- بشكلٍ مكثف في تثبيت هذه الرؤية لدى الوعي الجمعي للشعوب، ولم يكن الحدث السوري بعيداً عن مساحة الاستثمار التي شغلها المستفيدون من انتشار الكم الهائل من المفاهيم المغلوطة في المجتمع، ففي الحالة السورية أدى انتشار المفهوم السائد للمعارضة إلى وضع «الثوري» السائر على أساس واضح، و«الثورجي» مُدَعي الثورية في قالبٍ واحد، «قالب المعارضة السورية» وأياً تكن الاختلافات الجوهرية بين شاغلي هذا القالب، فهي في الوعي الشعبي فروقٌ ثانوية، أما جوهرها المتمثل بكلمة «لا» فهو ثابت.

المعارضة ما بين الكلاسيكية والحداثة

إذا ما حاولنا استنباط نقاط التلاقي ما بين التعريفات العديدة التي قدمتها أمهات الكتب الكلاسيكية السياسية حول مفهوم المعارضة، يمكننا أن نستخلص التعريف الأكثر شمولية وانتشاراً، ويرمي هذا التعريف إلى اعتبار المعارضة «فرد أو مجموعة أفراد يختلفون مع الحاكم، سواء كان الحاكم فرداً أو حزباً أو حكومة». وقد ساهمت بساطة هذا التعريف وخلوه من قواعد وأسس الاختلاف ما بين طرفي النزاع السياسي بازدياد أعداد الذين تبنوه كتعريف وحيد لمفهوم المعارضة السياسية، وقد انعكس «ازدياد التبني» هذا على آلية عمل مُعظم التكتلات والتجمعات السياسية المعارضة في العالم، فتبنت بدورها هذا التعريف أيضاً، وبات هو المحرك الأساسي في رسم سياستها، وظل يكتسي هذا التعريف أهميته حتى نهايات القرن الثامن عشر ومشارف القرن التاسع عشر، أي حتى قيام الثورة الصناعية في أوروبا، هذه الثورة التي كانت السبب في بلورة نظريات سياسية أكثر علمية وحداثة، وقد ساهمت هذه النظريات عبر ما قدمته من تصور للأسس السليمة للحكم بإعادة صياغة مفهوم المعارضة السياسية، فمكنتها من امتلاك أدوات نقدها لنظام الحكم القائم وتقديم البديل عن سياسته التي تعارضها، ومكنتها أيضاً من معرفة المفاصل الأساسية التي ينبغي العمل عليها في الفترات التي تنجح فيها كمعارضة بالاستيلاء على السلطة، وقد امتازت النظرية الماركسية باعتمادها مبدأ دراسة الظروف الموضوعية للمجتمع، والعمل على إيجاد حلول إبداعية تتوافق مع تعقيدات المشاكل التي يعاني منها، مما أبعدها كنظرية سياسية واقتصادية واجتماعية عن قوقعة الجمود، وأعطاها القدرة على التطور في إطار محدد تحكمه الثوابت الأساسية للنظرية، لكن في الواقع رغم كل ما حققته هذه النظرية من نقلة نوعية على الصعد كافة، إلا أن الميل نحو البساطة ظل يشكل السمة الأساسية لبعض رواد عالم السياسة. من هنا انقسمت معارضات العالم إلى ما لا يقل عن ثلاثة تيارات، الأول يدرس آلية الحكم القائمة، ويطلق حكمه العلمي عليها، ويبتدع الحلول المتوافقة مع الظروف الموضوعية للوسط الذي يشغله، وعلى أساسها يُطلق برنامجه السياسي، والثاني يضيع في فلك التعريف الكلاسيكي للمعارضة فيكتفي بالقول بأنه «معارض» دون أن يدرك أسباب معارضته، مما يجعله عاجزاً عن صوغ برنامج سياسي واضح، والثالث تصنعه وتحركه البلدان المُعادية لوطنه، وبهدف إضفاء الشرعية على عمالته تُلبسه هذه البلدان ثوب «المعارضة». وبهذا فالنظرة العلمية المُنطلقة في أساسها من دافع وطني تُجرد الثاني والثالث من عباءة المعارضة وتُبقي على الأول.


قوى المعارضة السورية، أين موقعها؟

في سبيل تحديد دقيق لمواقع قوى المعارضة السورية المختلفة، لا بد من التفريق فيما بينها أولاً، وفي الواقع فقد سمح انعقاد مؤتمرين للمعارضة السورية في دمشق بالفرز ما بين ثلاثة قوى رئيسية معارضة على الساحة السياسية السورية، وهي «مجلس اسطنبول» و«هيئة التنسيق الوطنية» و«قوى التغيير الديمقراطي السلمي»، وتتعرض الأخيرة إلى إقصاء دائم من الهيئة وحملة تخوين شعواء من المجلس، وغالباً ما  يُبرَر هذا الهجوم بما مفاده أن «الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير» مُمثلة في حكومة النظام، أي بمعنى آخر إن المهاجمين ينتمون بفكرهم السياسي وأدوات نقدهم إلى القرن الثامن عشر!!  إن دراسة وضع النظام السوري أكدت وتؤكد يومياً على استحالة إمكانية استمراره بشكله الحالي، تعامل كلٌ من المجلس والهيئة مع الموقف عبر اعتبار النظام كتلة واحدة مجرمة وصلت إلى حد الموت ويجب إسقاطها، بينما أدركت الجبهة أن أي تغيير في المجتمع يُهمِش القوى الوطنية في النظام سيبقى قاصراً وعاجزاً عن أن يكون تغييراً حقيقياً، معتمدة في ذلك على فكرة أن الجديد الذي يُوْلَد بحاجة إلى العناصر التقدمية من القديم الميت الذي يموت، وعلى هذا الأساس قبلت الجبهة التحدي، وعلى أساس إزهاق المادة الثامنة في الدستور القديم، ودخلت إلى الحكومة، ذاك المكان القادرة من خلال تواجدها فيه على تحديد العناصر التالفة والجيدة من «القديم الميت» بشكل أفضل، وكان في جعبتها برنامج سياسي اقتصادي اجتماعي واضح، مُجابِهَة في ذلك نزعة النظام الدائمة إلى اعتماد السياسة المتمثلة بإدارة الأزمة عوضاً عن التخطيط لإنهائها، من هنا فإن شعار «تغيير النظام» ليس تلطيفاً لشعار «إسقاط النظام»، بل إن الفرق بين الشعارين تماماً كالفرق بين الرؤية العلمية وغير العلمية، بهذا تحاول الجبهة أن تبدع الحلول بأدواتٍ غير تقليدية لأزمة غير تقليدية. بينما انشغل «مجلس اسطنبول» بحملة «تطمينات سياسية» حول مستقبل العلاقات السورية مع العدو الصهيوني في مرحلة «ما بعد الأسد»، ورافقت حملتهم سلسلة تخوين ومعاداة ضد القوى المقاومة والداعمة لها، وسريعاُ ما انعكس الموقف اللا وطني لهذا المجلس على حجم تمثيله السياسي في الداخل السوري، وبهذا سقط قناع المعارضة عن المجلس، أما «هيئة التنسيق الوطنية» فقد اتسمت سياستها بإطلاق الشعارات الوطنية علناً وغموضاً في الموقف الوطني عملاً، فمِن رفض التدخل الخارجي والوقوف ضد الفيتو الروسي الصيني في آن واحد، إلى انتهاج سياسة الإقصاء والعمل على تشتيت صف المعارضة في اللحظة التي بات فيها توحيد صفوفها ضرورة وطنية، إلى عدم الإعلان عن برنامج سياسي واضح... إلخ.

إن إعادة تقييم شعبي شامل لمفهوم المعارضة بات ممراً أساسياً من شأنه تحقيق رؤية سياسية أكثر علمية ودقة، وإن الحاجة لإعادة التقييم هذه ليست مُقتصرة على قوى المعارضة فقط، بل إن إعادة تقييم مفهوم الموالاة ودراسة أسبابه ومدى تأثره بالنزعة اللاوطنية لبعض دعاة المعارضة بات أيضاً ممراً رئيسياً من ممرات الخروج من الأزمة، والاتجاه نحو إعادة العمل على أساس الفرز الصحيح في المجتمع.