..بين الإعلام الرسمي والإعلام الوطني

..بين الإعلام الرسمي والإعلام الوطني

صبح من الثابت اليوم، وبعد أحد عشر شهراً من الأحداث في سورية أن الإعلام الرسمي وشبه الرسمي السوري قد خسر المعركة الإعلامية وبجدارة. يظهر ذلك من خلال قدرة التأثير العالية للإعلام الخارجي على السوريين من مختلف الاتجاهات، ولعل أهم مؤشرات تلك القدرة هي تمكن ذلك الإعلام من تمرير مصطلحاته ورموزه إلى داخل بنية التفكير لدى السوريين: (التنسيقيات، الناشط السياسي، علم الانتداب، حماية المدنيين، الحظر الجوي، الممرات الآمنة، المناطق العازلة، الانشقاقات...الخ).

تلعب مصطلحات العدو حين يتم تداولها على أنها مفاهيم ناجزة وواقعية دوراً بالغ الأثر في حسم المعركة حتى قبل وقوعها. وكان غرامشي المفكر الشيوعي الايطالي قد حذر من الدور الخطير الذي تلعبه رموز العدو وإشاراته في تحقيق هيمنة عالية وبأقل التكاليف، ورأى أن الحل الوحيد هو إعادة صياغة تلك المصطلحات وتفكيكها لكي تناسب الواقع الحقيقي، فلو أن الإعلام السوري لم يصف المظاهرات منذ بداية الأحداث بأنها «تجمعات متفرقة لا تتجاوز 20 شخصاً» على سبيل المثال،  لكان استطاع الهيمنة من خلال قوله للحقيقة، لكنه وبمحاولته لتغطية الأحداث وفقاً لرؤيته الخاصة - والتغطية هنا تعني التعتيم- شرّع الباب واسعاً أمام الإعلام الخارجي لكي يتحول إلى الناطق الرسمي باسم الواقع..

أياً كانت الممارسات الخاطئة للإعلام الرسمي وشبه الرسمي السوري -وهي كثيرة- فإن أسباباً كثيرة على رأسها أن الإعلام الرسمي السوري يلعب الدور التقليدي للإعلام الرسمي.. أي أنه إعلام السلطة وليس إعلام السوريين ويظهر ذلك جلياً في كونه يخاطب صنفاً واحداً من السوريين هو صنف «المؤيدين»، ولا يترك مجالاً إلا ويستغله لجلد «المعارضين» وتقريعهم وتخوينهم في كثير من الأحيان. أي أن الإعلام الرسمي سلم سلاحه من الجولة الأولى، وأخرج من دائرة تأثيره جزءاً من الشعب السوري تاركاً إياه ليتقاذفه إعلام العدو وليعيد تركيب ذهنيته وفقاً لمصالحه..

لعل القناة الأبرز في لعب الدور السلبي باسم «الوطن» و«الوطنية» هي قناة الدنيا التي لا يعدو تطرف طروحاتها أن يكون الوجه الآخر لتطرف طروحات الجزيرة والعربية وإن كنا لا نساوي بين النوايا لكن النتائج هي الحكم النهائي في هذا الأمر  فحين تذهب قناة الدنيا لاعتبار المتظاهرين مجموعة من المخربين والخارجين عن القانون وما إلى ذلك من تعاطي حبوب هلوسة وغيره..، فإنها تدفعهم دفعاً إلى استعدائها والتنكر لما تحاول طرحه في الجانب الوطني، بل واعتبار كل ما يجري مؤامرة من النظام السوري على العالم بأسره في طرح مضاد للطرح الوحيد الجانب الذي يعتبر كل ما يجري مؤامرة خارجية على سورية، حتى أن بعض طروحات قناة الدنيا أصبحت موضوعاً للتندر الأسود كظهور أحد المحللين السياسيين الذي فهم بطريقته الخاصة فكرة البيئة الحاضنة للمسلحين واستنتج أنه من المطلوب اقتلاع تلك البيئة من جذورها ما يعني على الأرض قتل مئات آلاف السوريين.. هذا في الوقت الذي طرح فيه السياسيون الحريصون على سورية من معارضين ومؤيديين أن المطلوب هو اكتساب هذه البيئة وإعادة جسر الثقة بينها وبين الدولة يخرج المحلل إياه ليضرب على الطاولة بيد من «حديد»..

تنتصب أمام النظام السوري اليوم مهمة مستعجلة وحاسمة، مهمة وطنية من الطراز الأول، وهي محاسبة إعلامه الرسمي وضبط خطابه شبه الرسمي لكي يتوافقا مع التعددية التي أصبحت واقعاً لم تعبر عنه بعد البنى السياسية والإعلامية والفوقية عموماً. لا يمكن الخروج من الأزمة الراهنة دون استعادة ثقة السوريين بجهاز الدولة، وللإعلام السوري - الذي هو جزء من ذلك الجهاز ومعبر عنه في آن معاً - دور حاسم في ذلك.