الثروة وإعادة توزيعها

الثروة وإعادة توزيعها

يحمل مصطلح الثروة في الذهنية العامة طابعاً يتعلق بأصحاب الثروة ومالكيها، أي الثروة الفردية، خزائن المال والذهب المكدسة قديماً، وحديثاً مظاهر الرفاهية المبالغ بها، ولربما أسماء أغنى رجال العالم أو غيرها. مقابل هذه الصورة العامة، يختبئ مفهوم الثروة الاجتماعية، أي ثروة المجتمع، والتي توزع على أفراده بنسب متباينة عالمياً لكنها ذات اتجاه واحد، تراكمي وشديد التمركز، فتتزايد كماً ولكنها تنحصر أكثر فأكثر في أيدي قلة قليلة.

العمل والد الثروة، والأرض، الطبيعة، أمها..

تولد الثروة الاجتماعية من العلاقة المقدسة والمحددة للتطور البشري، وهي علاقة العمل مع الطبيعة. في هذا الموضع تخلق الثروة الاجتماعية الجديدة، أي تنتقل الثروة الطبيعية إلى مرحلة أعلى من حيث فائدتها وجدوى استعمالها اجتماعياً، وتتراكم هذه الثروة بأشكال كثيرة أهمها أشكالها المادية أي الحاجات والمواد وكل ضرورات وكماليات الرفاه الاجتماعي، وتتراكم أيضاً بشكل آخر، وهو تراكم المعارف البشرية، والتي تعد أحد أهم مولدات الثروة الاجتماعية، كل هذا يوضح الطابع الاجتماعي لعملية خلق الثروة، ويطرح تساؤل حول شرعية توزيعها إلى ثروات فردية قليلة عدداً ولكن كبيرة جداً رقماً أو كماً، حيث تشكل حوالي 80% من الثروة الاجتماعية، بينما توزع الـ 20% الباقية على جميع منتجي الثروة المتبقيين..
ما الذي يبرر ملكية أصحاب الثروات الفردية لهذه النسبة الكبيرة من ثروة اجتماعية مصدرها نحن.. عملنا المتراكم تاريخياً وتجاربنا ومعارفنا كذلك؟ الثروات الفردية تفقد الشرعية التاريخية التي اتخذتها من حاجة التطور إلى تمركز الثروة لتوسيع الإنتاج، إلا أن هذا الشرط التاريخي قد زال لا بل انعكس تماماً، وأصبحت هذه الملكية بالإضافة لعدم شرعيتها الإنسانية معيقة لعملية التطور، حيث يعتمد في زيادة الثروات الفردية على استنزاف العمل البشري والطبيعة إلى أقصى حد، حتى لو أدى ذلك إلى تدميرهما.

 

توزيع الثروة في سورية:

الدخل الوطني في سورية كرقم كمي تقريبي للتعبير عن الثروة الوطنية، يوزع بنسبة 75% أرباح، مقابل 25% أجور.
وبقراءة هذه المعادلة وفق التحليل السابق، فإن أصحاب الربح تتجمع لديهم 75% من الثروة المضافة سنوياً، بينما أصحاب الأجر ينالون 25% فقط، تحمل هذه المعادلة تفسيراً لكثير من الظواهر الاقتصادية والاجتماعية في سورية، بداية بالفقر والتهميش المتزايد من جهة، مقابل الترف والبزخ، وكذلك توضح ظاهرة البطالة، وتوضح إعاقة حل كثير من المسائل العالقة، مثل سير عجلة الاقتصاد السوري الحقيقي المتباطئة.

 

أصحاب الربح يعيقون التطور:

تقول الدعاية الرأسمالية العالمية وفروعها المحلية المتخلفة، بأن أصحاب الربح ورؤوس أموالهم هي دلالة ومولد التطور، وقد سر الكثير من البسطاء بالمنشآت المنمقة التي تربعت ساحات المدن السورية، وسروا بأناقة روادها، ولكن سرعان ما اتضحت الغباشة عن «المظاهر الحضارية الترفية»، نتيجة التوسع الكبير للفقر والتردي الكبير في الوضع الاقتصادي.
فسير النشاط الاقتصادي في سورية يقوم وفقاً لمصالح أصحاب نسبة 75%، ويكون هدفه بالتالي الربح السريع، الذي يتحقق في قطاعات مال، استيراد، مضاربة، سياحة المترفين، وهو ما يفسر معدل نمو معلن هو 5% خلال خمس سنوات في حين أن الحقيقة على العكس من ذلك، نمو وهمي ترافق مع تراجع الزراعة، وتراجع الصناعة، أي تراجع إنتاج الثروة الاجتماعية.. وفرضت الخصوصية السورية على أصحاب الأرباح مهمة أساسية هي إعاقة وتهميش منافس سوري هام هو قطاع الدولة، وإعاقة حمايته لأصحاب الأجر، وهذا يفسر أيضاً تراجع دور الدولة الإنتاجي والخدمي، وفشل كل محاولات إنقاذ القطاع العام من الموت السريري. وكل ذلك يفسر زيادة البطالة والتهميش، زيادة التخلف والإفقار، عدم قدرة الدولة على ضبط حالات الاحتكار، والفجوة الكبيرة بين الأجر المطلوب لتحقيق مستوى معيشة لائق، وبين الحد الأدنى للأجور حالياً.
لذا فإن أصحاب الربح الكبير يسرقون ثرواتنا بداية، ويعيقون تطورها وزيادتها باحتفاظهم بها.. يستخدم أصحاب الربح قوتهم المالية وسطوتهم السياسية، وعلينا أن نستخدم قوتنا العددية، وفعلنا السياسي، لنزيد الوزن، ودون هذا لا ينفع الطلب من الدولة بتغيير هذه المعادلة، أي أن زيادة الوزن السياسي لأصحاب الأجور، هو شرط قيام الدولة بتنفيذ مصالحهم..

 

كيف توزع الثروة:

الثروة الاجتماعية المتراكمة كما ذكرنا فهي بشكلين مادي يشمل الثروة الطبيعية والحاجات والمواد والمنتجات والمال المعبر عنها، وشكلها الآخر وهو تراكم التجربة البشرية على شكل معارف وعلوم ومنتجات ثقافية وحضارية، توزع أيضاً وفق هذه المكونات.
وإعادة توزيع الثروة لها طريقتان: الأولى مباشرة، تتمثل بزيادة الأجور بالسحب المباشر من الأرباح، وفي ظل المعادلة السابقة فإن أصحاب الأجر الأدنى يحتاجون إلى مضاعفة أجورهم ثلاث مرات لتصل لسد الحاجات الضرورية والأساسية، وهذه الزيادة يفترض أن يسحب نصفها من الأرباح بشكل مباشر أيضاً، بداية من مصادرة أموال الفساد الذي يأخذ نسبة 30 % من الدخل الوطني كربح غير مشروع، ووصولاً إلى ضرائب على الأرباح تتصاعد بزيادة الربح كآلية لإعادة التوزيع. والنصف الثاني بالطريقة غير المباشرة لإعادة توزيع الثروة، وهي زيادة الأجر الحقيقي بتخفيف تكاليف الإنفاق على السلع الضرورية، وهذا بتوسيع دائرة الحاجات الرئيسية المجانية أو المدعومة على الأقل، ويدخل ضمنها السكن والماء والكهرباء، حيث من الممكن أن تكون شرائح الاستهلاك العائلي الأولى والضرورية من هاتين الخدمتين مجانية، وتفرض تكلفة متزايدة على شرائح الاستهلاك المنزلي الأعلى، بحيث يغطي أصحاب القدرة على الاستهلاك الترفي، حاجة الاستهلاك الأساسي المتدنية، وهي عملية نقل للثروة على شكل خدمة من أصحاب الأرباح إلى أصحاب الدخل.
كثيرة هي الخدمات والمنتجات التي من المفترض إدخالها أو إبقاؤها ضمن دائرة دعم الدولة، وصولاً إلى تصفير تكلفتها، كالتعليم والطبابة والسكن اللائق والصحي، المنتجات الثقافية والحضارية، الخدمات الحكومية، المواصلات، حتى الوصول إلى تأمين وسائل الرفاهية، كل هذا يدخل في إطار زيادة الدخل الحقيقي، والثروة الاجتماعية، ويعيد توزيع الثروة، وما يعيق تنفيذه جدياً أو حتى السير باتجاهه، هو مصالح أصحاب الربح بسطوتهم المالية والسياسية داخل جهاز الدولة وخارجه. لذلك فإن منطلق العملية وشرطها الأول هو فرض إرادة الناس على جهاز الدولة، لتؤمن الشرط الثاني وهو بناء واستمرارية النماذج الاقتصادية التي تحقق نمواً حقيقياً يزيد موارد الدولة ويوجه توظيفها اجتماعياً..