تلثم جراحها.. وتتحضر لجولات جديدة
سجّلت الأعوام الخمسة الماضية، بقليل من الزهور، وكثير من الصخب والتحليلات والدماء، عودة الجماهير إلى الشارع. سجّلت ولادة حركة شعبية عالمية تسعى لاجتراح عالم جديد، وما كان أمام العالم القديم إلّا أن يتصرف كما «الميت يمسك بتلابيب الحي»..
في الأثناء، ألقى «الميت» بتحليلاته وقراءاته ومقارباته على رأس الوليد الجديد، علّه يلج الظلمة الرطبة فتستكين القبور.. كما لم يبخل العالم القديم بإعمال سكاكينه في الحركة تقطيعاً وتشويهاً.. وهنا مراجعة سريعة لسبب ظهور الحركة، ولمقاربات «الموتى» الإعلامية والعملية لها، واستشراف لآفاقها..
الدوريّة والرضا الاجتماعي
تثبت دراسة حركة الجماهير في أوروبا القرن التاسع عشر، وفي العالم كلّه في القرن العشرين، أنّ هذه الحركة هي حركة دورية، تتناوب بين الصعود والهبوط، بحيث تستمر صاعدة عقوداً متتالية لتعود فتخمد عقوداً أخرى، ويتراوح الدور الكامل بين 50 إلى مئة عام.
ما يحكم هذه العملية هو مقولة الرضا الاجتماعي بإحداثياتها الاقتصادية- الاجتماعية، والديمقراطية والوطنية. فحين يتراكم عدم الرضا عبر عقود من الأزمات الاقتصادية والقهر الاجتماعي والثقافي والسياسي، ويصل إلى عتبة محددة تنزل الناس إلى الشارع لتحل مشكلاتها وقد ثبت لها أنّ الفضاء السياسي الذي يدّعي تمثيلها لم يعد يمثلّها حقاً وبات عليها حمل النعش إلى مثواه الأخير ليتنفس الفضاء الجديد هواءً صحّياً..
انتقال الدورية من أوروبا وحدها إلى العالم بأسره، بين القرنين 19 و20، ليس إلا تعبيراً عن انتقال الرأسمالية من مرحلة المزاحمة الحرة إلى المرحلة الاحتكارية (الإمبريالية)، وتعبيراً عن استطالة مدى «المدفع البضاعي» لتشمل نيرانه شيئاً فشيئاً الأرض كلّها، وكذلك أزماته البنيوية وتمظهراتها الدورية.
«الربيع العربي»
ومن الدورية نفسها، يمكن الانتباه إلى أنّ انفجار الاحتجاجات الشعبية وتطورها العاصف إنما كان يجري في النقطة الأكثر هشاشة من المنظومة، ففي المرة الأولى 1789 كانت فرنسا هي تلك النقطة، وفي الثانية كانت روسيا 1917، وفي الثالثة التي نعيشها الآن، كان العالم العربي هو تلك النقطة الهشة الضعيفة التي غاصت ضمن المنظومة الرأسمالية العالمية خلال النصف الثاني من القرن العشرين بوصفها تابعاً ومنطقة طرفية.
وإنّ انفجار النقطة الأكثر هشاشة لا يعني أنّها وحدها التي ستنفجر، فتجربة التاريخ أثبتت أنّها أول من تنفجر لكنّها تشكل صاعقاً لبقية الانفجارات. ولذا فإنّ حصر الحركة الشعبية العالمية بأنّها «ربيع عربي» ليس إلّا محاولة لإبقاء الانفجار ضمن هذه الحدود، وتحميله طابعاً محلياً يعزل تأثيراته عن المنظومة.
ولعل أحداث العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، من انتفاضات ضواحي باريس إلى التحركات الواسعة في إسبانيا وإيطاليا والبرتغال والولايات المتحدة وغيرها، لم تكن إلّا الإرهاصات الأولى للحركة اللاحقة..
«المؤامرة»
بين المصطلحات التي روجتها الأنظمة لقراءة المشهد المستجد، وربما لإنكاره، مصطلح المؤامرة. والحق أنّ المؤامرة قائمة وعمادها الأساسي هو إلحاق هذه الأنظمة لدولها وشعوبها بالركب الاقتصادي الغربي المأزوم، من بوابة توصيات صندوق النقد «الليبرالية»، والتي برز جانبها الاجتماعي بتمثيلها لمجتمع الأرباح، مجتمع الأغنياء، وما أنتجه ذلك من تهميش غالبية المجتمع وإفقاره وتكريس تخلفه وتعميقه.
إعلام وNGOs
تمّ استكمال «المؤامرة» إياها، بعمل الشبكات الإعلامية ومنظمات غير حكومية تابعة بشكل شبه مطلق للحكومة العالمية، وبالتضافر والتناغم مع الحكومات المحلية لترويج جملة من الثنائيات والانقسامات العمودية ضمن صفوف المظلومين، ضمن صفوف الحركة الشعبية نفسها. من هذه الانقسامات، إلى جانب الطائفي والقومي: «موالي- معارض»، «علماني- متدين». هذه الانقسامات التي تظهر وهميتها عند أول فحص دقيق لحمضها النووي (مشروعها السياسي- الاقتصادي) فما أشبه الإخوان المسلمين مثلاً بالفاسدين الكبار داخل أجهزة الدولة، كلاهما ليبرالي محب للغرب ومتأنف بل وقرف من سواد الشعب..!
«الفاشية الجديدة»
ولا شك أنّ استكمال «المؤامرة» إياها بالتدخل العسكري المباشر، كان مكشوفاً إلى حد لا يجوز معه تسميته بالمؤامرة. الظاهرة الأكثر عمقاً وخطورة هي «الفاشية الجديدة» التي تتمظهر إرهاباً في منطقتنا و«قطاعاً أيمن» و«نازيين جدداً» في أوروبا والولايات المتحدة، وتعبر عن مصلحة رأس المال المالي الإجرامي العالمي المشتغل بالسلاح والمخدرات والإتجار بالبشر، والتي لا تتورع عن تدمير وإحراق شعوب ودول بأكملها، لتضرب تطور وتنامي القوى المنتجة على المستوى العالمي للحفاظ على موقعها على رأس العالم الخرب الذي نعيش فيه.
«تصاعد كمي ونوعي»
إنّ أولئك الذين يحاولون وأد الحركة الشعبية بعدما أشبعوها طعناً، يفوتهم أنّ «حقائق الحياة لا تسمح لنفسها بأن تنسى»، وأنّ قانونية التاريخ تقول بأنّ هذه الحركة لن تخبو بل ستشتد وتتصاعد حتى تستكمل مشروعها، ربما تتراجع وتهدأ وتتوقف حيناً، ولكنّ توقفها ذاك ليس إلا ما قال عنه فيكتور هوجو: «الوقوف هو استعادة القوى. إنه السكون المسلح اليقظ. إنه الأمر الواقع الذي يقيم أرصاداً ورقباء ويلزم جانب الحذر. الوقوف يفترض نشوب المعركة أمس، ونشوبها غداً».
وما نشهده في كل من فلسطين ولبنان والمغرب وغيرها ليس إلّا إرهاصات الطور الجديد من تطور الحركة الشعبية العالمية، التي باتت محكومة بالتصاعد، لأنّ رسالتها لم تعد مقتصرة على التغيير وصولاً لتجسيد قيم العدالة والحرية والأخوة الإنسانية، بل تعدت ذلك، بوجود الفاشية الجديدة، لتضيف إلى رسالتها مهمة حفظ النوع البشري من الانحطاط إلى الدرك المتعفن والقاتل الذي انزلق إليه أصحاب الربح العالميون.