(تقرير المصير).. بين الحقوقي والسياسي؟
تتعدد المقاربات المتعلقة بالقضية الكردية، وسبل حلها، بين استمرار محاولات إنكار الوجود, وعدم الاعتراف بوجود قضية قومية كردية. ليقابله، الحديث عن الانفصال والتلويح بتشكيل الدولة المستقلة في كردستان العراق من قبل بعض القوى القومية الكردية. وبين هذه وتلك ثمة أطروحات عدة، تبدأ بالإدارة الذاتية الديمقراطية، مروراً بالحكم الذاتي، أو الفيدرالية، أو الكونفدرالية.
بداية، وتجنباً لأي التباس، لا بد من تثبيت فكرة أساسية، طالما تم تجاهلها من القوى الدولية والأنظمة الحاكمة، ومن أغلب النخب السياسية وهي، أن الشعب الكردي كغيره من شعوب الأرض له الحق في تقرير مصيره، بعيداً عن سياسة عدم الاعتراف به، وبعيداً عن محاولة الالتفاف على هذا الحق، بغض النظر عن الشكل الأنسب لممارسة هذا الحق، الذي ستتعدد الآراء بشأنه حكماً، كما تتعدد في جميع الملفات الساخنة في الشرق.
إن حق تقرير المصير بما فيه الانفصال حق مشروع بموجب القوانين الدولية، وبموجب التجربة التاريخية، لا يجوز لأحد المساس به، من الناحية الحقوقية، ولكن في الوقت نفسه فإن تثبيت هذه الفكرة والانطلاق منها في قراءة الوضع الكردي، لا ينفي بحال من الأحوال القفز على الجانب السياسي، أي على الظرف الملموس، وتجاهل خصائص القضية الكردية، وطبيعة تطورها التاريخي، وتشابكها وتفاعلها مع القضايا الأخرى، حيث حدث ويحدث أن لا يتوافق الحقوقي مع السياسي والموضوعي..فمثلاً، كان وما زال من حق الشعوب العربية النضال من أجل الوحدة العربية، ولكن هذا الحق «المقدس» لم يتوافق مع الظروف الموضوعية تاريخياً، ففشلت كل المحاولات والتجارب في هذا السياق، لا بل أن القوى الوحدوية العربية، دفعت ثمناً غالياً عندما رفعت هذا الحق القومي المشروع، ووضعته بصيغة لا تتوافق مع الظرف الموضوعي في كل بلد، وعندما لم تتعاطَ مع هذا الحق ضمن الظرف التاريخي الملموس.
المرحلة التاريخية ..
وحق تقرير المصير
تجمع كل مراكز الأبحاث، في الغرب والشرق على أن البشرية اليوم تمر بمرحلة انتقالية، بين قديم يتماوت، وجديد قيد التشكل، مرحلة تتسم بعدة سمات:
• إن توازناً دولياً جديداً هو قيد التشكل، وإن عملاقاً اقتصادياً وعسكرياً جديداً يلملم قواه، في مواجهة القطب الأمريكي الذي تؤكد كل المؤشرات والمعطيات على أنه يتراجع، وأن عصر هيمنة ما سمي بالقطب الأوحد انتهى وعليه ثمة واقعاً دولياً جديداً.
• إن العالم يتجه نحو تكوين التكتلات الاقتصادية والسياسية الكبرى، وصولاً إلى العملات الموحدة، والسوق الواحدة، أي نحو الاندماج الطوعي، فعصرالانعزال القومي، وعصر الدولة «الكانتونية» ولى إلى غير رجعه، بغض النظر عن مشروعيتها حقوقياً.. وتكاد لا توجد دولة في عالم اليوم لا يكون ديدنها البحث عن أعلى اشكال التواصل والتعاون مع الدول الأخرى، وبالأخص في محيطها الجغرافي، وفضائها السياسي، واذا كانت الدول الكبرى تتجه نحو الإندماج والتكامل بأشكاله المختلفة، فالأحرى بقوى حركة التحرر التي ما زالت تناضل من أجل تحقيق الذات القومية، ومنها الحركة الكردية أن تختصر الطريق إلى ذلك، وتسير بالاتجاه الذي يخدم ذلك، لاسيما وأنها في الأصل ليست قضية احتلال بالمعنى الكلاسيكي، إن السير باتجاه الانعزال في المرحلة التاريخية الراهنة هو سير عكس اتجاه التطور الموضوعي التاريخي.
• إن حق تقرير المصير في ظل العلاقات الاقتصادية الدولية الراهنة، يجب أن يكون على رأس جدول أعماله الخروج من منظومة التبادل اللامتكافىء، التي «تنظم» العلاقة بين المركز الإمبريالي وبلدان الأطراف، وهذا ما عجزت و تعجز عن تحقيقه الدولة الكانتونية، إن تقرير المصير بالمعنى السياسي فقط، ليس إلا دوران ضمن دائرة الأزمة، ليس إلا إعادة إنتاج لأزمات أخرى، فالتجربة الملموسة، تقول أن الدولة التابعة بالمعنى الاقتصادي، ليس لها مستقبل، لا بل أن كل الدول التي تشكلت تاريخياً وبقيت ضمن منظومة التبعية مهددة اليوم في وحدتها، فكيف بمشروع دولة تتشكل على حواف بركان عالمي؟
• إن القوى المتراجعه لديها مشروع معلن، في ما أطلق عليه منطقة قوس التوتر، مشروع قائم على تفتيت الدول والكيانات، لا لإنشاء كيانات جديدة كما يتوهم البعض، بل لإشاعة الفوضى، وإنهاك كل القوى في هذا الفضاء الاقتصادي السياسي، عبر توريط الكل في صراعات بينية، مشروع يشتغل على الأزمات المتراكمة تاريخياً، لا لحل هذه الأزمات بل لإدارتها، والاستثمار فيها، بما يخدم مصالحها، وبما يخدم الحفاظ على مواقعها في سياق صراعها مع القوى الدولية الصاعدة.
ما الحل ..إذاً؟
إذا كان حق تقرير المصير حق مشروع، وإذا كانت استمرار سياسة إنكار الوجود مرفوضة؟ وإذا كان الشروع بالذهاب إلى الإنفصال، ضمن الشرط التاريخي الراهن مغامرة غير محمودة العواقب، ويخالف اتجاه التطور الموضوعي.. وإذا كان من المستحيل والمرفوض أن تبقى القضية الكردية، ضمن حلقة الأزمة التاريخية، و إذا كان لا بد من حل واقعي.. فما هو هذا الحل الملموس اذاً؟
ربما لا أحد يمتلك جواباً ناجزاً على هذا السؤال، مثله مثل العديد من الملفات الساخنة في عالم اليوم، وفي منطقة شرق المتوسط بوجه خاص، ولكن ما يمكن تأكيده، وما ينبغي الإقرار به، هو أن الظلم التاريخي الذي لحق بالاكراد منذ التقسيمات الاستعمارية، وفي عهد ما سمي بالدولة الوطنية، يجب أن ينتهي، وأن محاولات توظيف القضية أمريكياً لإثارة المزيد من الفوضى أيضاً يجب أن تتوقف أيضاً، لا بل يمكن القول أن القضيتين متكاملتان، ولا يمكن إنجاز إحداها دون الأخرى..
الاندماج الطوعي ...
نجتهد ونقول: إن الصيغة الأنسب لمواجهة الخطرين اللذين يهددان الشعب الكردي، ضمن الظرف التاريخي الراهن، تكمن في شكل ما من أشكال الاندماج الطوعي، على أساس الإعتراف المتبادل بالحقوق.
إن الإقرار بحق تقرير المصير الشامل والمتكامل والمتزامن للشعب الكردي ضمن فكرة الاندماج الطوعي، وحل القضية حلا ديمقراطياً عادلاً، يقطع الطريق على إمكانية توظيف هذه الحق لصالح الأجندات الإقليمية والدولية المتناقضة مع مصالح شعوب المنطقة بما فيها مصلحة الكرد، أما الحلول المجتزأة للقضية، بمعنى الانفصال في العراق لوحده مثلاً، يفتح الباب على دخول الشعب الكردي في أتون الصراع الإقليمي والدولي، لقد جاء التدخل العسكري التركي في الإقليم مؤخراً بحجة محاربة «إرهاب» حزب العمال الكردستاني، وقبله الموقف من تقدم حزب الشعوب الديمقراطي ونتائج الانتخابات البرلمانية، ودورها المفضوح في الأزمة السورية، مؤشرات واضحة على حقيقة موقف تركيا «عضو حلف الأطلسي».
إن الولايات المتحدة الأمريكية، إما أنها تريد توريط الكل بما فيها تركيا في صراع إقليمي وداخلي مركب، أو أنها بصدد عملية تبادل أدوار ومصالح مع الدولة التركية، في ظل تراجعها المستمر، وفي الحالتين، يكون الكرد من أهم المتضررين، وعليه يمكن القول، أن الغزل الأمريكي المريب لحق تقرير المصير لأكراد العراق وحدهم، هو على الأرجح محاولة لتوريط الأكراد، الأمر الذي يؤكده إرخاء اللجام للحصان التركي الشموس في الميدان الإقليمي.