الحراك الشعبي.. هل من جديد؟
بعد النتائج الأولية لثورتي 25 يناير و30 يوليو المصريتين، وبغض النظر عن التقييمات المختلفة والمتباينة للنتائج التي آلت إليها الحركات الشعبية العربية، والتي لم تستكمل العديد من مهماتها الضرورية، أو دخلت في دوامة العنف، خرج المزاج العام الشعبي منه، وبعض المثقف المسيس، بنتيجة مفادها أن: الحراك الشعبي انتهى، فمنه من استكمل مهماته، ومنه من غرق في دوامة العنف إلى الأبد!
بداية نريد أن نوضح أن فكرة بداية ونهاية أي حراك مرتبطة بحل التناقضات الاجتماعية المولدة له. وطالما أن التناقضات موجودة موضوعياً ووعتها الجماهير وحركتها السياسية، أم لا، فإنها ستظل تدفع الجميع إلى الغليان والتحرك، وعليه إن الوصول إلى نتيجة «نهاية حراك» أو نهاية «ثورة» تنم عن صورة غير موضوعية للحراك الشعبي، وترى فيه رغبة ذاتية من الجماهير، ومن أمكنه تمثيلهم في تغيير الواقع، منحرفاً بذلك عن حقيقة أن أي حراك لا يمكن أن يخمد مهما تعرض لتقلبات وتغيير في شكل تجلياته إلّا بحل التناقضات الاجتماعية التي ولدته.
وعلى ذلك لا مجال اليوم في إطار رصد أي حراك إلا التسيلم باستمراريته، وتصاعده، خاصة في تلك الأماكن التي لم يحقق فيها جوهر مطالبه، أي أعمق الحلول لتناقضات المجتمع.
عالمية الحراك
الفكرة الثانية التي أسست للحديث غير الموضوعي عن الحراك الشعبي ومآلاته هي: اجتزائه من سياقه العام. والحديث عنه كنمط خاص بحراك عربي إقليمي الطابع، وبأحسن الأحوال أنه حراك الشعوب ضد الأنظمة المتخلفة، وبالتالي يستثنى من هذه الموجة إمكانية تعميم الحراك إلى دول أخرى، ليتم نفي أي صلة بينه وبين أي حراك في الدول التي يرى فيها أصحاب هذه الفكرة أن أنظمتها «قمة التقدم». أصحاب هذه النظرة لا بيارحون شعور الدونية تجاه شعوبهم، والتي رأو أن حراكها الحالي ما هو إلا محاكاة للثورات الملونة التي رعاها الغرب، وعلى ذلك لا ينبغي لها أن تتحدث عن عملية ثورية لا ترى في ديمقراطية الغرب وليبراليته إلا سقفها المبجل. الغرب الذي أنجز ما عليه من حراك اجتماعي تقدمي في خمسينيات القرن الماضي واستكملها بالثورات أوربا الشرقية الملونة في العقدين الأخيرين وهو اليوم في حالة الكمال، وفقاً لهؤلاء!
التحولات الضرورية
الأمر الثالث والذي ينبغي الوقوف عنده هو: عدم رؤية الحراك في سياق تطوره وتحولاته الضرورية. ففي حين رفضت نخب عديدة، وتم تصنيفها على الأنظمة المتهالكة، الأشكال الأولى للحراك لما عاناه من ضعف في التنظيم، وعدم قدرة على صياغة جملة من المطالب العملية والضرورية على شكل برنامج ثوري، وضعف المناعة ضد مساعي التدخل الخارجي الرجعي الهائلة التي عملت المستحيل لحرفه عن بوصلته.
بالمقابل عمدت نخب مختلفة، سياسية وغيرها، إلى التمسك بالحراك بشكله الأولي، ووصلت بهم الأمور حد تقديس أي شعار أو أي سلوك مهما بلغت مخاطره على الحراك والعملية الثورية ككل، وهو ما كان ينم عن ضيق أفق هؤلاء في كثير من الأحيان، وعن انتهازية مفرطة أرادت للحراك أن يكون حربة لابتزاز الأنظمة بدل العمل والنضال لأجل تطويره وإنضاجه، وتأمين الشروط المثلى لتحولاته اللاحقة، وإن كلفها ذلك نقده من موقع الحليف.
مهمة القوى الثورية
إن المحددات الثلاثة، أي الموضوعية والاستمرارية، وعالمية الحراك، وتطوره وتحوله الضروري للتقدمية، والتي لا تزال السمات العامة للحراكات في كل المناطق مهما آلت إليه أمرها، هي جزء أصيل من السمات الموضوعية للحراك الشعبي في هذا العصر، وعليه لا يمكن لأي قوى ثورية في إطار تعاطيها العمل السياسي النضالي لأجل مصلحة الجماهير القنوت من هذه السمات، والتغاضي عنها، والتي وفيما لو أغفلت فستقع في مطبات كبرى تخرجها من «ثوريتها».
فالبعض الذي حزم حقائبه وغادر الميدان معتبراً أن «الثورة انتصرت» ببعض ما تحقق من مكتسبات، والتي على أهميتها إلا أنها لم تصل إلى العمق الضروري، لا يختلف كثيراً من حيث ضحالة الرؤية عمن ترفع عن الحراك كونه لم يحمل شعارات جذرية. أولئك لا يختلفون كثيراً من حيث ضيق الرؤية عن الذين يتعامون عن أزمة الغرب التي تأن في مراكز الديمقراطية الأمريكية والأوربية وغيرها، والتي تنتظر انفجارات كبرى تشهد شراراتها شوراع فيرغسون في الولايات المتحدة وأثينا وغيرها. كما إن حركة المد والجزر في الحراك ستصفي رجس لحظاته الأولى التي أشبعها الرجعيون دماءً لا حاجة لها على مذبح الثورة إلا لإجهاضها. وعليه فجديد الحركة الشعبية يشق الأمل بالنصر وعلى الثوريين النضال اليومي لأجل تحسين خروجه المظفر لا الانتظار والقنوت وجلد الذات عما سبق.