ربع الساعة التاريخية الأخير والمنعطفات الكبرى
شهد النصف الأول من عام 2015 كماً كبيراً من الأحداث الهامة على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية المختلفة. وإن كانت الأزمات المتفاقمة المختلفة، لما تصل بعد إلى مستقراتها، فإنّ الأشهر الماضية، ومعها الأشهر القليلة القادمة، هي بالذات الفترة التي يحتدّ الصراع ضمنها لتحديد أشكال ومضامين هذه المستقرات، ومصير سورية والشعب السوري ضمناً..
يمكن تكثيف أهم الأحداث - على المستوى الدولي والإقليمي- التي جرت خلال نصف السنة الماضي بجملة من الأمور هي التالية:
«بريكس»
تعمق وتطور تحالف دول «بريكس»، وبخاصة قوتاه الأساسيتان: الروسية والصينية، ليتجاوز هذا التحالف عتبة التعاون الاقتصادي والسياسي، وصولاً إلى العسكري: (المشاركة العسكرية للصين والهند ضمن احتفالات عيد النصر في روسيا، واتفاقات السلاح المختلفة، هي إعلانات سياسية عن هذه المسألة).
نظام العلاقات الاقتصادية الدولي
الإزاحة المتسارعة لنظام العلاقات الاقتصادية الدولية المتحكم به أمريكياً ودولارياً، عبر خلق البدائل المالية والنقدية والاقتصادية والاشتغال على تعميمها: (إنشاء البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، كمنافس وبديل للبنك الدولي، والذي انضمت إليه معظم دول العالم بمن فيهم حلفاء واشنطن الأوروبيون. تكريس التبادل الثنائي بالعملات المحلية في نطاق دول بريكس، وإعلان هدف إزاحة الدولار. في السياق نفسه أيضاً، رفع نسبة الذهب ضمن الاحتياطات النقدية المتزايدة في الصين وروسيا على حساب الدولار الذي يجري طرحه بوتائر متسارعة). يجري ذلك بالتوازي مع فك ارتباط الدولار بحوامل الطاقة، عبر الاشتغال على مصادرها وخطوطها (تثبيت امتلاك إيران للطاقة النووية سياسياً، وتوقيع عقود ضخمة لبناء مفاعلات نووية، في كل من الهند وتركيا والسعودية ومصر وغيرها، وإعادة رسم خطوط الطاقة ضمن آسيا، بما يمنحها استقلالية تامة عن محاولات التحكم الأمريكي، وبما يمهد لوصل هذه الخطوط باتجاه أوروبا. تفعيل مشاريع «طريق الحرير» التي تتحدث عن بنىً تحتية ومواصلات، وتعكس في جوهرها عملاً دؤوباً لتكامل اقتصادي آسيوي لن يلبث أن يتصل بأوروبا).
الرد يعزز المشكلة
الظهور المخزي والفاضح لفشل محاولات الرد الاقتصادي الأمريكي جميعها، والتي تركزت في: (حرب النفط التي وصلت إلى حدودها النهائية، وبدأت بالانكفاء دون أن تغير في مسار الأمور العام نحو تثبيت التوازن الجديد، بل سرعت هذا المسار بإنهاك واشنطن وحلفائها، وعلى رأسهم السعودية. وحرب العملات كذلك فشلت فشلاً ذريعاً، وارتدت عكسياً بفتحها الطريق واسعاً ويسيراً أمام إجراءات روسيا والصين المتعلقة بطرح الدولار، والتوجه المتسارع نحو المعادل الذهبي والعملات المحلية. العقوبات الاقتصادية كذلك فشلت بتغيير المسار العام، وسمحت بالمقابل بخلخلة عميقة في الصف الأمريكي- الأوروبي لأنّه وضع الأوروبيين في حالة تجعلهم يدفعون الأثمان كلّها، في عزّ أزماتهم الداخلية الاقتصادية، وفي ظل انعدام أرقام النمو تقريباً).
«لن تدخلا المحرقة»
عسكرياً، لم تنجح واشنطن في محاولاتها المختلفة جرّ أقدام روسيا والصين إلى تدخلات عسكرية مباشرة في المحارق التي تصنّعها (ولعل أكثر أحلام واشنطن وردية هي أن تتمكن من توريط الروس والصينيين بتدخلات من هذا النوع)، واضطرت في المقابل إلى زج حلفائها واستنزافهم في تلك المحارق، كما جرى ويجري مع السعودية ومع غيرها بدرجات أقل.
«الاستقلال» الأوروبي!
الضغوط الاقتصادية والسياسية، وحتى الأمنية، المتعاظمة التي تخضع لها دول أوروبا عامة، كثمن مباشر لاصطفافها إلى جانب الولايات المتحدة، يدفع هذه الدول دفعاً نحو «الاستقلال» عن واشنطن، هذا «الاستقلال» الذي ظهرت علائمه الأولى كاستقلال جزئي محصور في حدود «الموقف الإقليمي» وتجلى في «رباعية النورماندي» الخاصة بحل الأزمة الأوكرانية، باعتبار المسألة الأوكرانية، وإن كانت في عمقها ذات أبعاد دولية، ولكنها من حيث شكلها على الأقل، مسألة «أمن قومي أوروبي»، الرباعية التي لا تزال واشنطن تقاتل وتستميت للدخول فيها دون جدوى. الجديد في مسألة «استقلال» أوروبا عن واشنطن، هو طريقة التعامل الخشنة خشونة لا سابق لها -لهذه الأخيرة- عبر صندوق النقد مع اليونان. فشكل المطالبة بالديون والنسب غير المسبوقة المفروضة في خطط التقشف المطلوبة، والتي سترفع كثيراً من احتمالات خروج اليونان من الاتحاد الأوروبي، تشير بوضوح إلى فقدان واشنطن الأمل نهائياً في إبقاء الاتحاد الأوروبي موحداً وتابعاً لها بكامله، ما يدفعها إلى محاولة التحكم بعملية تفككه، باتجاه قسمه بينها وبين روسيا، ضمن آمال في خلق حاجز طبيعي موالٍ لها بين روسيا وألمانيا بالذات، عبر بعض دول الاتحاد السوفييتي سابقاً ودول أوروبا الشرقية.. وهي عملية لن تكون سهلة أبداً.
هبوط «الإخوان»
إنّ ثبات الميل العام المنحدر لتنظيم «الإخوان» العالمي، والذي هزم في تونس ومصر، وفي تركيا مؤخراً وهي مركزه الأهم، يشير إلى مسألتين غاية في الأهمية: الأولى، هي انهيار الحامل السياسي الأساسي للمشاريع الأمريكية، ليس في المنطقة العربية فحسب، بل وفي مساحات كبرى من آسيا وإفريقيا. يترافق ذلك مع انسداد الأفق التاريخي أمام استمرار الأنظمة القائمة، ومع غياب أية «بدائل أمريكية» جدّية ذات بعد شعبي (وهذا ما يفسر إلى حد بعيد المحاولات المستميتة لتحويل الصراعات المختلفة، نحو أشكال طائفية وعرقية). المسألة الثانية، وربما تكون الأكثر أهمية، هي أنّ النشاط الفاشي الجديد كلّه الذي قادته ونظمته واشنطن خلال العقود الماضية، وصولاً إلى داعش وشبيهاتها، قد فقد بسقوط الإخوان معادله السياسي. وبسقوط المعادل السياسي فإنّ المشروع بأسره قد دخل مأزقاً وجودياً، وبـ«أحسن الأحوال» فإنّه سينتقل مع واشنطن من مرحلة «الإنكار» إلى مرحلة «التكيف»، ما يعني إصراراً اضطرارياً إضافياً على دفع الأمور نحو مسائل التحاصص العرقي والطائفي، التي لن يكون للمشروع الفاشي الجديد أي أمل في الاستمرار دون حدوثها، فظروف «حلول» من هذا النوع ستشكل الأمل الأخير للمشروع الفاشي في ظل غياب معادلاته السياسية.
الورطة السعودية
إنّ الورطة الكبرى التي دخلتها السعودية، بعدوانها على اليمن، وبتشجيع وموافقة أمريكية، دون أدنى شك، تحمل دلالات هامة، فهي أولاً تعيد تأكيد فكرة أنّ أمريكا كقائد لمعسكر الإمبريالية ستتجه في سياق تفاقم أزمتها ومحاولات الخروج منها إلى جرّ حلفائها نحو الهاوية، الواحد بعد الآخر، ابتداءً من الأضعف وصولاً إلى وقوعها هي. هذه الفكرة التي تقود تجلياتها العملية المتعاظمة إلى اشتداد وتصاعد عمليات تنصل حلفاء الأمريكي منه، والبحث عن خيارات أخرى، الأمر الذي يعزز الاتجاه الذي أشرنا إليه بما يخص أوروبا. ثانياً: إنّ تورط السعودية وما يحمله من احتمالات توتر إضافي على أراضيها، وبحكم أهميتها النفطية العالية، من شأنه أن يسرع ميلاً عاماً للخروج من منظومة الطاقة وخطوطها القديمة نحو البديل الروسي- الصيني. ثالثاً: انكفاء السعودية الإلزامي التدريجي نحو الداخل، سيشدد من مفاعيل التراجع العالمي للـ«إخوان» والمشروع الفاشي الجديد، باعتبارها مساهماً أساسياً فيه.
في الداخل الأمريكي
ارتفاع درجة الاضطراب والمشكلات الاقتصادية في الداخل الأمريكي، والتي فشلت حتى الآن محاولات تحويلها لصراع عرقي بين بيض وسود، وظهور نزعات الانفصال مؤخراً، كلّها مؤشرات إضافية على ازدياد صعوبات تصدير الأزمة نحو الخارج، وتعاظم احتمالات انفجارها في الداخل.
خلاصات
إنّ الخطوط العامة، التي أشرنا إليها بإيجاز شديد أعلاه، تقود جميعها نحو الاستنتاجات الأساسية التالية:
أولاً: إنّ كل ما فعلته واشنطن، على الأقل منذ عام 2008 وحتى الآن، وإن بدا في ظاهره هجوماً شاملاً، إلّا أنّه في جوهره محاولة لتصدير الأزمة الرأسمالية الكبرى التي تعصف بالعالم أجمع ومركزها والمتضرر الأكبر منها هو واشنطن نفسها في نهاية المطاف، وهو رد فعل على القوى الصاعدة، الروس والصينيين بشكل أساسي. وبكلام آخر هو تكثيف هائل ومستمر للنيران، مرّ بمرحلتين: الأولى هي مرحلة إنكار عنوانها الدفاع والتمترس، والثانية -التي بدأت هذا العام فعلياً- هي مرحلة التكيّف وتكثيف النار أكثر بغية تنظيم التراجع.
ثانياً: إنّ عملية فرض ميزان القوى الدولي الجديد قد استوفت عناصرها جميعها: الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وما يعيشه عالم اليوم بأسره هو جزء متقدم من المرحلة الانتقالية نحو عالم جديد.
ثالثاً: إنّ الاشتغال على تحويل الاتجاه الإلزامي نحو الحلول السياسية لمختلف الأزمات على الخارطة العالمية نحو حلول شكلية تستند إلى تحاصصات عرقية وطائفية، هو الأمل الوحيد المتبقي لواشنطن وللمشروع الفاشي الجديد، وهو أمر يمكن إفشاله والإجهاز عليه. والشعب السوري مدعو اليوم لتقديم نموذج أولٍ في الذهاب السريع نحو حل سياسي على أساس المكونات السياسية، صيانة لبلده، ولدمه الذي يسيل حتى اليوم، بتكامل الجهود الآثمة لواشنطن وحلفائها مع المتشددين من الساسة السوريين من طرفي الأزمة، الذين لا يتوقفون عن إنتاج الأوهام وبيعها للناس مقابل الدم.. والحق أنّ أوهام «الحسم» و«الإسقاط» غدت أكثر بضائع السوق السورية كساداً، ولذا يجري الترويج اليوم لبضائع الهلع الطائفي والعرقي، وهذه أيضاً يجب العمل على ألا تجد من يشتريها.