الدولة.. النظام.. وعملية التغيير؟!

الدولة.. النظام.. وعملية التغيير؟!

الصراع الدائر في البلاد هو بالمحصله صراع على اتجاه تطور الدولة السورية، من حيث طبيعة النظام الاقتصادي الاجتماعي، والبنى الفوقية المتوافقه معه، وشبكة العلاقات الدولية والاقليمية، وتالياً  بالدور الإقليمي الذي تفرضه الجغرافيا السياسية على سورية.

مر التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في سورية بعد الاستقلال بمراحل عدة، كانت السمة العامة فيها من حيث النظام الاقتصادي الاجتماعي هي: سيادة علاقات الإنتاج الرأسمالية، بما يعنيه هذا التوصيف في بلدان الرأسمالية الطرفية، من علاقات مع السوق الرأسمالية العالمية، وتأثير ذلك على عموم التطور الاقتصادي الاجتماعي والسياسي في البلاد، وشكل تبلور القوى والشرائح الاجتماعية داخل جهاز الدولة وخارجه، مضافاً إليها خصوصية الموقع السوري في معادلة الصراع العربي- الصهيوني، وبُعدها الدولي، وعلاقة التأثير والتأثر المتبادلة لذلك في توازن القوى الداخلي..
مع عجز القوى البرجوازية، والشرائح المستغلة، التي حاولت بناء مشروعها الوطني، في العقد الذي تلا الاستقلال السياسي، عن قيادة عملية التطور في البلاد، طفت على السطح شرائح اجتماعية جديدة، وتحديداً البرجوازية الصغيرة، من خلال تجربة الوحدة السورية المصرية أولاً، واستحواذ حزب البعث على السلطة فيما بعد، حيث تم القطع، مع نموذج ما اصطلح عليه بالبرجوازية الوطنية، لصالح  شرائح البرجوازية الصغيرة، وتحديداً الفلاحين والجنود، التي دفعتها مصالحها الطبقية، والصعود العاصف لقوى التحرر في العالم إلى القيام ببعض الإجراءات التقدمية في المجال الاقتصادي الاجتماعي، كالإصلاح الزراعي والتأميمات، مما زاد من الوزن النوعي لتلك الشرائح، فتضخم جهاز الدولة وازداد دوره، الذي كان وما زال الجيش يشكل عموده الفقري.
هذا التضخم في جهاز الدولة، تم في ظل غياب الحريات السياسية، أي في ظل خروجه عن رقابة المجتمع، مما أدى إلى تشكل طبقة جديدة في رحم جهاز الدولة، ترث امتيازات البرجوازية التقليدية، دون ان ترث ملكيتها، كما تنبأ بذلك تقرير صادر عن الحزب الشيوعي السوري بعنوان «سورية على الطريق الجديدة» في أواسط الستينات. ومع تراكم ثروتها، وتحكمها بمفاصل الدولة، هيمنت هذه الشرائح على جهاز الدولة كاملاً، وتحكمت به، دون أدنى حد من الاستقلالية كما هو مفترض، أي أن النظام السياسي ابتلع جهاز الدولة، ووظفه كما يريد، بدءاً من دوره الخدمي وانتهاء بدوره في ضبط المجتمع ضبطاً قسرياً، بما يتوافق مع استمرار تراكم الثروة لصالح الشريحة الجديدة، الأمر الذي تقونن مع تبني السياسات الليبرالية منذ ما يقارب عقد من الزمن. 


النظام وجهاز الدولة علاقة إشكالية

إن العلاقة بين النظام السياسي وجهاز الدولة في سورية، كانت علاقة تابع ومتبوع، فالثاني بات تابعاً للأول، ومع التراكم التاريخي أصبح ذلك سمة عامة طبعت بطابعها عموم التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في البلاد، بحيث أن أي تغيير قسري في النظام السياسي، يمكن أن يؤدي إلى إنهيار بنية الدولة كحامل مؤسسي للبنية الوطنية كلها، مما يعني بمعنى ما، ارتهان مصير الدولة والوطن لمصير النظام السياسي.


الأزمة الوطنية، النظام، الدولة

تفجرت الازمة السورية ضمن هذا المعطى، ضمن هذا الشكل من العلاقة بين النظام السياسي، والدولة السورية بمعنى المؤسسات والجغرافيا والثقافة والتاريخ، وضمن ذاك المستوى من التطور الاقتصادي الاجتماعي والسياسي، الذي يتميز باتساع النهب والفساد والانفتاح وإلغاء كل أشكال الحماية الاقتصادية للقطاعات السورية المنتجة إلى أبعد مدى مقابل الانخفاض المريع في مستوى الحريات السياسية التي تسمح للمتضررين بالدفاع عن مصالحهم أو حتى بالتعبير عن مواقفهم، فوضعت سورية كوطن أمام تحد تاريخي وجودي، في ظل امتناع النظام عن إجراء تغيير في بنيته، وفي ظل استغلال قوى دولية وإقليمية ومحلية الظرف الناشىء للإجهاز على الدولة السورية، بحجة إسقاط النظام.
أي أن مجموع العوامل الداخلية، والتدخل الخارجي الاقليمي والدولي في الأزمة السورية، وضعت سورية أمام مأزق تاريخي، يستفيد منه أعداء سورية اليوم، لاستمرار النزيف السوري، والإمعان في إنهاك الدولة السورية، وتمرير المشاريع الاستعمارية القديمة– المتجددة، ومنها إنهاء الدور السوري في الصراع مع الكيان الصهيوني، أو على الأقل لفرض الحلول التي تعبر عن مصالح أصحاب تلك المشاريع في حال فرض عليهم الذهاب الى حل سياسي تحت ضغط توازن القوى الدولي الجديد. 


التغيير التدريجي هو الحل؟

رفعت بعض القوى الوطنية السورية منذ سنوات شعار التغيير الجذري الشامل التدريجي، في بنية النظام، بحيث يشمل كل المجالات، بما يحافظ في الوقت نفسه على تماسك جهاز الدولة، ويفكك تلك العلاقة غير الصحيحة بين النظام، ومصير الدولة السورية. أي أن الظرف السوري الملموس وتوازن القوى يفرض نمط التغيير التدريجي، الذي يعني فيما يعنيه مشاركة النظام في الحل، دون استفراده بذلك، الأمر الذي يساهم في تصويب بعض ملامح التشوه الحاصل في التوازن المطلوب بين الشعب السوري والدولة والنظام السياسي، ذلك التوازن الذي يعني غيابه بالضرورة، غياب الاستقرار في ظل المرحلة الانتقالية التي تمر بها كل البنى الاقتصادية الاجتماعية القائمة، على طريق التغيير الجذري الشامل.

التغيير: ضرورات جديدة

وإذا كان التغيير ضرورة تاريخية موضوعية قبل تفجر الأزمة السورية، كون النموذج القائم كان قد استنفد دوره التاريخي، فإن مآلات الأزمة نفسها والطابع الدراماتيكي لها أضاف أهمية أخرى، حيث يعتبر البدء بالتغيير الوطني الديمقراطي الجذري والعميق والشامل، سياسياً واقتصادياً- اجتماعياً، معادلاً لبقاء سورية الموحدة والمستقلة، حيث بات من المؤكد أنه لايمكن الحفاظ على سورية، ومواجهة الإرهاب التكفيري، كذراع للفاشية الدولية، بالقوى التي يمتلكها النظام لوحده، وبالطريقة التي يتبعها في إدارة الأزمة، والمنطق الذي يعمل به، فالمواجهة المجدية تتطلب وجود مقاومة شعبية عريضة ضد داعش وشبيهاته، الأمر الذي لا يستطيع النظام تأمينه، ضمن منطق الحسم العسكري الصرف وسياساته الاقتصادية الاجتماعية الحالية التي وسعت الهوة بينه وبين شرائح واسعة من الشعب السوري، حيث اتسعت ظاهرة الفساد أفقياً وعمودياً، وتوسعت دائرة الفقر أكثر فأكثر، ناهيك عن حالة الانقسام الوهمية في المجتمع السوري، بين موال ومعارض.
إن فتح الباب أمام عملية التغيير يؤمن اصطفافاً جديداً في سورية، ويوفر الحد المطلوب لانخراط الأغلبية العظمى من الشعب السوري في التصدي للمهام التي تفرض نفسها على سورية، ومنها تجاوز الأزمة ومواجهة الإرهاب.