التلميحات الأمريكية.. وأفراح المتشددين وأتراحهم!

التلميحات الأمريكية.. وأفراح المتشددين وأتراحهم!

أثارت تلميحات وزير الخارجية الأمريكي بـ«استعداد واشنطن للتفاوض مع النظام» ردود أفعال متباينة لدى مختلف القوى. التلميح الذي ينطوي على قدر كبير من التلاعب، على الطريقة الأمريكية المعهودة، والذي جرى نفيه على لسان المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية، أثار صدمة المعارضين اللاوطنيين من «الغدر» الأمريكي، وفي الوقت ذاته تهليلاً لدى متشددي الموالاة.

في مقابلة لوزير الخارجية الأميركي جون كيري على قناة CBS، لمح كيري بنحو غير مباشر إلى «استعداد واشنطن للتفاوض مع النظام السوري». كيري قال حرفياً أن بلاده «ستضطر للتفاوض مع الرئيس السوري بشار الأسد بشأن انتقال سياسي في سورية». مشدداً على أن واشنطن تبحث سبل «الضغط» على النظام للقبول بالمفاوضات.

حمّال أوجه!

يحمل كلام كيري هذا وجهين؛ من جهة فإن تلك العبارات لا تخرج عن أدبيات واشنطن المعهودة في التفاوض من أجل «انتقال السلطة»، المقولة التي كثيراً ما ترد على ألسنة الساسة الأميركيين، كصيغة مخففة لـ«رحيل النظام»، والتي عادة ما تستخدم لتوتير أجواء المسار السياسي، واستدعاء ردود أفعال متشددة من مختلف الأطراف، بما يخدم عرقلة ذلك المسار. ومن جهة أخرى، فإن كلام كيري ينطوي في الوقت ذاته على تلاعب ملحوظ بالمفردات للإشارة إلى إمكانية «التفاوض». والتلاعب هذا  يجري على الطريقة الأمريكية الديماغوجية المعروفة في رمي المواقف ثم التراجع عنها، بما يحقق غايات سياسية محددة، وجزئية في بعض الأحيان، وبما يسمح بالتملص من الالتزامات والمسؤوليات والاستحقاقات. وهو ما تم عملياً في تصريحات المتحدثة باسم الخارجية الأميركية، جين بساكي، التي أشارت إلى أن «التباساً» جرى في التعاطي مع حديث كيري، وأنه لم يتغير موقف واشنطن الرافض لعقد محادثات مع الرئيس السوري، وأن واشنطن هدفها دائما أن يكون هناك ممثلون من كلا الجانبين، الحكومة والمعارضة، في التحول السياسي.

«انعطاف» وهمي

في مقابل هذا المشهد، تعاملت بعض القوى السياسية ووسائل الإعلام المتشددة، في الموالاة والمعارضة، مع تلميحات كيري على أنها تحوّل «جوهري» في السياسة الأميركية. وأن واشنطن أجرت «انعطافاً» في سياستها تجاه الأزمة السورية. ففيما شكّلت هذه القراءة بالنسبة للـ«معارضة» المتشددة «صدمة» و«غدراً» من الأمريكيين بقضيتهم!. لم تخف بعض الأطراف الموالية المتشددة بهجتها وفرحتها بتلك «التحولات» التي عدتها دليلاً على «انتصار النظام» ولضرورة بقائه دون تغيير.

بعض المعارضات المتشددة اللاوطنية، كشفت مرة أخرى من خلال قراءتها لتلميحات كيري، بأنها تستحق بجدارة لقب «معارضات التدخل الخارجي»، بالرغم من تشدق بعض رموزها مؤخراً، باستعدادهم «للتفاوض دون شرط حول حل سياسي». هذه القوى لا تتحدث عن الحل السياسي إلا مراوغةً، فيما هاجسها الثابت على طول الخط ينحصر بانتظار فرصة تدخل عسكري خارجي، كي تنسل من خلاله إلى السلطة. ولعل الفرصة الأخيرة التي تعول عليها هذه القوى، هي إفشال الحل السياسي في مساره الأخير، الذي انطلق من موسكو تمهيداً للعودة إلى مؤسسة ووثيقة «جنيف». هذا الأمر يفسر وقوف تلك المعارضات مدهوشة ومستنكرة أمام مراوغة أمريكية كلاسيكية على لسان كيري. يدهشها أن واشنطن قد تبدي مرونةً تجاه حل الأزمة السورية، بحكم كونها مضطرة لذلك نتيجة تراجعها في ميزان القوى الدولي الجديد الذي يتشكل في العالم.

ومن ناحية ثانية، فإن الأيام القليلة الماضية شهدت «انعطافاً»، موازياً لتصريحات كيري، لدى بعض الشخصيات المعارضة، التي تتأرجح عادة بين خط الحل السياسي وخط «الحلول العسكرية» بحسب اتجاهات الرياح الدولية والإقليمية. الكثير من مقابلات ومقالات وتصريحات هؤلاء في الأيام الأخيرة، وبمجرد ما أدلى كيري بتلميحاته، اعتبرت موضوع حل الأزمة السورية محسوماً، وانتقلت إلى معالجة قضايا أخرى في مرحلة «ما بعد التسوية»، كإعادة الإعمار، والدستور وشكل المرحلة الانتقالية ومجرياتها.. الخ. هؤلاء «العمليون» بفهمهم للسياسة، والذين ينحصر «فهمهم» بالاستماع فقط إلى التصريحات الأميركية، وتمحيصها، لم يلحظوا الجهود الدولية والإقليمية المبذولة من بداية العام الجاري، لإنعاش مسار الحل السياسي، وتعبيرها عن التراجع الأمريكي في ميزان القوى الدولي الجديد!.

«استقبال حار»

في المقابل، سارعت بعض الموالاة المتشددة إلى توظيف التلميحات الأمريكية في تدعيم منطق «الحسم العسكري»، من خلال إظهار واشنطن «نادمة» على عدم التعاون مع دمشق، وأنها تنوي في المرحلة المقبلة إلى رفع غطائها عن المعارضة المسلّحة، إقراراً (بنجاح النظام بالتصدي للمؤامرة)،  ولضرورات مكافحة الإرهاب. يجري ذلك كله من خلال ربط سطحي بين تصريحات عدة ساسة أمريكيين، والتقاط الإشارات التي تؤكد تلميحات كيري. وإظهار الأمريكيين كمغرّر بهم من جانب المعارضة المتشددة، وكأنهم لم يساهموا حتى في تصنيع تلك المعارضة والإرهاب عبر حلفائهم، أو لم يقودوا حرباً غير مباشرة ضد سورية.

الغايات الفعلية

أما عن واشنطن ذاتها، فما هي غاياتها من رمي مثل هذا الطعم إلى الأوساط المختلفة، سواء المتلهفة أو المستنكرة؟ أولاً: إن أمريكا مضطرة عاجلاً أم آجلاً إلى العودة إلى التعاطي مع جانب العملية السياسية في الأزمة السورية، والذي قطع فيه الروس أشواطاً كبيرة خلال الفترة الماضية، وأحكموا سد الثغرات التي صنعها الأمريكيون في مسار الحل السياسي، وبالأخص في محطة جنيف-2، الأمر الذي يعكس التراجع الأمريكي في أحد جوانبه، وسعي الولايات المتحدة للحفاظ على خطٍ للرجعة. وثانياً: فإن عودة الأمريكيون إلى مسار الحل السياسي، لا تأتي بالضرورة من إقرارهم واقتناعهم بضرورته أو أهميته. بل تأتي بالدرجة الرئيسية في إطار محاولات خلط الأوراق وفتح ثغرات جديدة في جدار الحل السياسي، تسمح لهم بالتأثير في المجريات اللاحقة للعملية.

آخر تعديل على السبت, 21 آذار/مارس 2015 19:58