«الحقوقية» والمسؤولية الوطنية
يجادل كثيرون بأنّ ما جرى من دماء بين السوريين قد كرّس انقسامهم إلى غير رجعة، وبما أن «الدم لا يصير ماءً» فإنّ الثأر والأحقاد ستستمر إلى ما لا نهاية..
يلتف البعض الآخر على هذه الطروحات ليكررها تحت اسم الدعوى الحقوقية، بالقول أنّ هنالك أناساً تلطخت أيديهم بالدماء وليس من مخرج سوى القصاص العادل. ورغم ما تحمله كلماتهم هذه من قوة ظاهرية في المنطق والحجة، فإنّها تبطّن انعداماً في مسؤوليتهم الوطنية والإنسانية تجاه سورية والشعب السوري!
إنّ مشكلة النظرة الحقوقية–على أهميتها- هو ضيق تلك النظرة ومحدوديتها، فالاستحقاق الأساسي الذي يواجه السوريين اليوم هو استحقاق سياسي بامتياز قبل كونه حقوقياً، استحقاق يتركز في إنهاء استنزاف البلاد ودمارها، وفي الحفاظ عليها موحدةً أرضاً وشعباً، وفي التصدي لقوى الفاشية الجديدة التي تفعل فعلها على الأرض السورية عبر داعش وغيرها، وذلك كلّه لا يمكن إنجازه دون تحقيق الحد الضروري من الوحدة الوطنية عبر فتح آفاق التغيير الوطني الديمقراطي الجذري الشامل السياسي والاقتصادي الاجتماعي. وفي إطار عملية الحل السياسي هذه يمكن النظر جدياً بمسائل «القصاص» بحيث يخضع الحقوقي للسياسي وليس العكس..
وإذا كان للمجتمع السوري عاداته في الثأر فإنّ له أيضاً عاداته في الصلح، والأمثلة على الأرض السورية عديدة في هذا السياق، يكفي أن نستذكر الهدن والمصالحات الميدانية التي جرت–بكل ما لها وما عليها- لنخرج باستنتاج يؤكد ما ذهبنا إليه من أنّ المزاج العام لدى السوريين ميّال نحو المصالحة والتوحد للخروج من المأزق الدموي الذي يعيشونه. أضف إلى ذلك الأمثلة الميدانية التي انتقل فيها مسلحون سوريون معارضون إلى حرب مفتوحة مع «داعش» دفاعاً عن أرضهم وأهلهم، بل وتعاونوا مع الجيش السوري في بعض الحالات.
إنّ ما جرى ويجري حتى اليوم، هو اقتتال الفقراء فيما بينهم، واقتتال الأغنياء بدم الفقراء. التجار على الجانبين يزدادون تخمة وشراسة وأرباحاً، والفقراء يزدادون فقراً. أعداء البلاد يستفيدون ويحصون الأرباح، وأبناؤها يلثمون جراحهم المفتوحة.
إنّ المعركة الحقيقية الوطنية الوحيدة التي على السوريين خوض غمارها هي معركة مركبة ضد الإرهاب بصفته أداةً لتدخل العدو الخارجي ممثلاً بواشنطن وحلفائها، وضد الفاسدين واللصوص في الطرفين، الجهتان–الفساد والإرهاب- اللتان تخدم إحداهما الأخرى باستمرار وبوعي عالٍ، وتخدمان في نهاية المطاف واشنطن وحلفائها وعلى رأسهم الصهاينة. والطريق الوحيد السالك نحو هذه المعركة هو طريق الحل السياسي الذي يسمح لصوت الفقراء بالارتفاع فوق صوت السلاح ويضع هذه الأخير بخدمة سورية والشعب السوري.
عند هذا الحد، يظهر جلياً أنّ المنطق الثأري يفترق نهائياً عن المنطق الوطني وعن المسؤولية الوطنية، وذلك أياً كانت الحجج والذرائع التي يتسلح بها أصحاب ذلك المنطق، فنتائجه على الأرض ماثلة وواضحة للجميع..