التحولات في مشهد المعارضة.. إلى أين؟
هشام الأحمد هشام الأحمد

التحولات في مشهد المعارضة.. إلى أين؟

منذ ما قبل انفجار الأزمة، تخضع المعارضة السورية إلى حالة فرز عميقة. ذلك الفرز نشأ في البداية على أساس فهم الوضع الدولي الذي ساد في العقدين الأخيرين، ثم على أساس الموقف من التدخلات الخارجية في منطقتنا.. وأخيراً على أساس الموقف من الحل السياسي..  

محطات كثيرة، لعبت وتلعب دوراً أساسياً في الاصطفافات التي اتخذتها المعارضة السورية، منذ ما قبل انفجار الأزمة السورية بعقود. فمنذ انهيار الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي، بدأت خريطة القوى السياسية في سورية، ومنها المعارضة، في التحول بنحو كبير، على أساس الوضع الدولي الجديد المتشكل.
مفردات ذلك العصر، كـ«انتصار الرأسمالية» و«القطبية الواحدة» وسيادة «النموذج الغربي».. الخ، تدفقت في خطاب قسم من القوى المعارضة، التي قرأت انهيار المعسكر الاشتراكي على أنه استحقاق وقع على عاتق دول العالم الثالث للتحول باتجاه الركب الغربي، بكل اتجاهاته، الوطنية والسياسية والاقتصادية. وما عزز هذه القراءة لدى تلك القوى، هو «مقتضيات المرونة» التي أقدم عليها النظام في التعامل مع المتغيرات الدولية في تلك المرحلة، ، وبالأخص بما يتعلق ببداية التحول بالقرار الاقتصادي، (قانون الاستثمار رقم 10 - مثالاً).
رهانات..؟
وفي مطلع الألفية الجديدة، بدأت مرحلة جني ثمار القراءات الدولية المختلفة. فبعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، والاحتلال الأمريكي لأفغانستان، ثم العراق، تعمّقت حالة الفرز داخل المعارضة، وبرز في حينه الموقف المؤيد، علناً وضمناً، للتحولات التي بدأت تطال منطقتنا على وقع قدوم الغرب الإمبريالي محتلاً لقسماً من أراضيها، ومملياً سياساته وخياراته على قسمها الآخر. برز هذا الموقف جلياً في إطار «إعلان دمشق»، الذي قدّم قراءته في ذلك الحين كنوع من الاستجابة السريعة لواقع التفرد الأمريكي في منطقتنا والعالم، ومتحضراً في الوقت ذاته لسيناريو «وقوع الدور» على سورية بعد العراق. إلا أنه وفي المقابل برزت قوى معارضة أخرى، رفضت التدخل الخارجي في ذلك الحين، وطالبت بالتوازي بإنجاز الإصلاح الجذري الشامل في الدولة والمجتمع. هذا القسم من المعارضة يشكل اليوم القوام الأعظم لقوى المعارضة الوطنية في مرحلة ما بعد انفجار الأزمة السورية، والذي طور عملياً ذلك الموقف باتجاه مجابهة التدخلات الخارجية والعمل على استحقاقات التغيير الجذري الشامل لبنية النظام السياسي القائم. وينبغي الإشارة هنا إلى أن ضعف الحريات السياسية في ذلك الحين، أعاق عملياً ظهور موقف قوى المعارضة الوطنية إلى العلن، في مقابل موقف قوى المعارضة اللاوطنية. فبالرغم من تحقيق المعارضة الوطنية لدرجة ما من الحضور في قواعدها الجماهيرية، بفعل قواها الذاتية والإبداعية، إلا أن حقها في الخوض في الحياة السياسية، بالموقف المشرف الذي كانت تحمله، كان ممنوعاً من القوى المتشددة في جهاز الدولة في حينه، لأنه كان على ما يبدو مضراً بمصلحة تلك القوى بدرجة الضرر ذاتها التي يلحقها بخطاب قوى المعارضة اللاوطنية.
تحول كبير
قبل ظهور التحركات الشعبية في المنطقة، وانفجار الأزمة السورية، حصل متغير كبير على المستوى العالمي، هو انفجار الأزمة الرأسمالية الاقتصادية العالمية، في 2008. هذا التحول الكبير، الذي بدأ منذ ذلك الحين برسم ملامح ميزان قوى دولي جديد، مرّ على قسم كبير من الحركة السياسية، في المعارضة والموالاة، مرور الكرام. فإذا عدنا إلى ذلك القسم من المعارضة، الذي كان يتحين فرصة التدخل الخارجي، فإنه لم يقرأ التراجع الأمريكي، واستمر بالعمل بـ«البوصلة» ذاتها حتى بعد بداية التحول فعلياً في الاتجاهات السياسية الدولية. ولم تنفعه «انتهازيته» في شيء. حتى باتت تنطبق عليه أوصاف «الخشبية» و«الجمود» التي كان يكيلها إلى المعادين للسياسة الغربية. أصحاب هذا الاتجاه هم غلاة المعارضة اليوم، الذين يطالبون بالتدخل الخارجي لـ«إسقاط النظام». في المقابل، أفسح الواقع الموضوعي المجال أمام قوى المعارضة الأخرى، التي حملت الحل السياسي كبرنامج للخروج من الأزمة، بعكس برامج متشددي المعارضة والنظام المستندة إلى الحلول العسكرية.
إلى أين؟
في فترة الأزمة تعددت أدوات الفرز داخل المعارضة، فمن الموقف من التدخل الخارجي، إلى درجة التأثر بالضغط والدعاية السياسية الإعلامية لطرفي الانقسام الوهمي «موال- معارض»، إلى مدى صوابية فهم ميزان القوى العالمي، إلى المقدرة المعرفية والعملية والسياسية على تمثيل الحركة الشعبية.. الخ. كل هذه العوامل لعبت وتلعب دوراً كبيراً في الاصطفافات التي اتخذتها قوى المعارضة، وساهمت في حدوث التحولات في مواقفها وبنيتها على مدى أعوام خلت. وفي هذا الإطار، جرت عملية فرز كبرى داخل المعارضة، تحولت بموجبها القوى اللاوطنية المطالبة بالتدخل الخارجي إلى جزء أساسي من آلة التدخل ذاته. وفي المقابل فسح المجال أمام قوى المعارضة الأخرى أن تمارس دورها دون تشويش المعارضة اللاوطنية الذي كان سارياً فيما سبق.
لكن مع وصول البلاد اليوم إلى ما وصلت إليه من درجة العمق في أزمتها ومستوى التدويل عالي، ودرجة العنف المرتفعة، ولكارثة إنسانية.. وهلم جراً. فإن قوى المعارضة اليوم، إذا استثنينا المعارضة المرتهنة للخارج، باتت تقف أمام مفترق الطرق ذاته الذي تقفه البلاد. بمعنى أنها إما أن تذهب باتجاه الحل السياسي، بما بات يعنيه ذلك، من سلوك عملي وملموس باتجاه بذل الجهد اللازم لذلك من خلال الانخراط بكل التحركات التي من شأنها أن تنعش مسار الحل السياسي، والتي تتوفر إمكانيتها مع وجود أطراف دولية وإقليمية صاعدة تدفع بهذا الاتجاه. وإما فشل الحل السياسي، الذي بات من المعلوم أن من خلفه تصعيداً كبيراً لا بد له من أن يفرض ضريبته الباهظة على المجتمع وقواه السياسية.