الحركة السياسية السورية... والتوازن الدولي؟!
من إحدى السمات المشتركة للنخب السياسية السورية المعارضة منها والموالية منذ تفجر الأزمة، هي حالة الإرتباك التي تعاني منها في معرفة اتجاه تطور الصراع الدولي ومآلاته، الأمر الذي أدى ويؤدي إلى التخبط المستمر في فهم الأزمة السورية بأبعادها المختلفة، والتعاطي الصحيح مع مستجداتها، وإمكانية الخروج منها، وخصوصاً بعد أن تمت عملية تدويلها، إذ لم يعد ممكناً قراءة أي ملف من الملفات الدولية - ومنها الملف السوري - قراءة صحيحة إلا من خلال فهم معمق لخريطة التوازن الدولي الناشىء ومستوى ثباته أو تأرجحه، في سياق الصراع الدائر بين القوى الدولية على طرفي التوازن الجديد، على أكثر من ساحة وفي أكثر من مجال، ومعرفة مصالح كل منهما، سواء كانت العامة منها على المستوى الدولي، أوتأثير هذه المصالح على الخاص في كل بلد.
الحقيقة الأساسية التي ينبغي إدراكها أن حالة التوازن التي تتشكل هي في جانب منها نتاج التراجع الامريكي، وأن هذا الأخير يعود بدوره إلى الأزمة الاقتصادية البنيوية المستمرة، وأن روسيا لأسباب عديدة هي المرشح الأكثر تأهيلاً لملء الفراغ الناشىء، وإذا كان يُغفر للعقل السياسي التقليدي ألا يرى هذه الحقيقة في بدايات التراجع نتيجة البلادة المعرفية، والافتقار إلى أدوات التحليل المناسبة، فإنه لم يعد ذلك مبرراً، وبات يندرج في خانة «الكفر» السياسي بعد أن بات هذا التوازن مرئياً بالعين المجردة، وصار واقعاً ملموساً، وبعد أن بات الاستناد إلى هذا التوازن في تحديد الموقف من مفردات الأزمة ضرورة وطنية، وحاجة سورية ملحة تفرضها ضرورة الخروج من الأزمة التي باتت تهدد وجود سورية كوحدة جغرافية وكتاريخ ومستقبل، بمعنى آخر بعد أن بات موضوع الخلاف نفسه على وشك ألا يكون؟!
تكمن مشكلة أغلب قوى الحركة السياسية السورية في أنها تأخرت في إدراك التوازن الدولي الجديد من جهة، ومن جهة أخرى وإن باتت تقر به، فأنها ما زالت تتعاطى مع الأزمة ضمن المنطق السابق، وعلى أساس قاعدة البيانات والمفاهيم التي سادت في ظل الاستفراد الأمريكي بالقرار الدولي، وبقيت عملياً تتعاطى مع الموقف، وكأن شيئاً لم يتغير؟
الموالاة .. وشكراً روسيا؟!
بعد استخدام الفيتو الروسي الاول زينت الموالاة الجدران والساحات ومواقع التواصل بـ شعار«شكراً روسيا» ولكن هذه الموالاة نظرت دائماً إلى تصاعد الدور الروسي على أساس أنه «طوق نجاة»، فالدورالروسي في لجم التدخل العسكري المباشر هي فرصة لاستمرار النظام بالطريقة السابقة، وبالأدوات السابقة، وبالسياسات السابقة، وليس باعتباره فرصة ذهبية، لمعالجة تلك الأسباب البنيوية الداخلية المنتجة للأزمة، والتي تتعلق بطبيعة النظام، وتم التفريط بالفرصة تلو الأخرى دون الاستفادة الحقيقية من التوازن الدولي الناشىء لصالح سورية بل استثمرت في الموقف الروسي لصالح بقاء النظام حصراً وكما هو، بغض النظر عن توافق هذا النوع من الاستثمار مع مصلحة سورية كشعب ودولة، وذهب بعض الأمّعات المحسوبين على الموالاة إلى القول، بأن الموقف الروسي من الأزمة هي حاجة روسية، قبل أن تكون حاجة سورية، وراح رهط آخر من المحسوبين على الموالاة يسرد لنا أحلام يقظته، ويفسر الموقف الروسي كما يريد هو، وإذا برز أي مستوى من التمايز بين مواقف الدبلوماسية الروسية ومواقف النظام، ذهب هؤلاء إلى تقزيم مفهوم التدخل الخارجي واعتباره مجرد مفهوم جغرافي، فروسيا والولايات المتحدة كلاهما خارج! وذهب آخرون أبعد من ذلك من خلال التوهم بإمكانية اللعب على حبال التوازن الدولي كالسابق، وخصوصاً بعد الحرب الأمريكية المزعومة على إرهاب «داعش» و... ولا حول ولا قوة إلا بالله؟!
المعارضة والتوازن الدولي؟!
بقيت قوى المعارضة السورية اللاوطنية أسيرة لمفهوم كون الولايات المتحدة دولة كلية القدرة، وعلى هذا الأساس وضعت البيض كاملاً في السلة الأمريكية، وصولاً الى تبرير التدخل العسكري المباشر، وراحت ترتب أوراقها وتضع اجندتها على هذه الأسس، وذهبت الى تهيئة نفسها لاستلام السلطة، وراحت تحدد الموعد تلو الآخر لاسقاط النظام، وكلما خذلتها الوقائع التي تعود في جانب كبير منها إلى التوازن الدولي الناشىء راحت تصب غضبها على روسيا باعتبارها «حامية النظام»، أي ان هذه الجوقة من المعارضة تعيش خارج التاريخ، وخارج حالة الحراك السياسي والشعبي الدائر في العالم كله.. وبالتوازي مع ذلك كان قسم آخر من المعارضة وإن لم ينزلق الى مستنقع تبرير التدخل العسكري، من باب«الطهرانية» الوطنية فحسب، إلا أنه لم يدخر جهداً في التهجم على الدور الروسي واتهامه بالانحياز المطلق إلى جانب النظام، وليس لجانب« الثورة السورية» على حد زعمهم، ليكشف هو الآخر عن فهم خاطىء لمسألة التوازن الدولي الناشىء، ومقدماته وتنتاقضاته الداخلية، وتعرجاته، وبالتالي إمكانية الاستفادة منه لصالح سورية كدولة وشعب.
في فهم التوازن؟
هذا الفهم السطحي لمسألة التوازن وطريقة التعاطي معه من الموالاة والمعارضة، أو عدم أخذه بعين الاعتبار، وتحديد المواقف على أساس هذا الفهم القاصر، كانت وما تزال من أسباب دخول كل عناصر البنية السورية في المأزق الراهن، واستمرار العمل بها أدخل البلاد في متاهة تكاد لا تنتهي..
ما لا تدركه النخب السورية المختلفة حتى اللحظة، أن التوازن الدولي ليس عملية شكلية وعابرة، وأنه لا يتعلق بملف واحد في هذه المنطقة الساخنة أو تلك من مناطق العالم، ولا هو مجرد رغبة روسية فقط، بل هو عملية تاريخية موضوعية شاملة، عالمية الامتداد، وإن كانت تترك تأثيراتها حسب خصوصيات كل بلد ودرجة تطوره، عملية يفرضها الفراغ المؤقت الناشىء بسبب تراجع البنية التي كانت مهيمنة على القرار الدولي، وهو ليس مجرد منافسة روسية - أمريكية ضمن منظومة الرأسمال القائمة، بل هي أبعد من ذلك أيضاً، وتطال كامل منظومة الرأسمال القائمة، وان ما يظهر من تجليات على السطح حتى الآن ما هي إلا بدايات هذه العملية التاريخية المديدة، وإن جل ما يستطيع الطرف المتراجع فعله، هو خلط الأوراق واللعب على الوقت ليس إلا، سواء كان بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر، عبر حسابات مصرفية، أو سوق سوداء للسلاح، أو إسقاط السلاح «خطأ» لصالح داعش، أو من خلال الاستمرار في بيع الأوهام لهذا وذاك، وأن الطرف الصاعد يخوض معركة مصير، وهو مضطر من أجل ذلك إلى تجذير المعركة، وبالتالي ليس لديه الكثير من الوقت لانتظار لتصورات قوى تعمل ضمن حدود الإحداثيات السابقة، ومن أجل اجندة خاصة وضيقة، لا تتوافق مع اتجاه التطور المطلوب، فكيف إذا كانت تعاكسه؟ وكيف إذا كانت هذه القوة الصاعدة تخوض أكثر من حرب، في حقول الاقتصاد والسياسة والعسكرة، في حرب العملات وحرب النفط، في فض أو توتير النزاعات المسلحة، في جميع الملفات الشائكة، وذلك على امتداد خريطة العالم، ومنها الأزمة السورية بكل تأكيد.