«أحدٌ ما» هو المسؤول الحقيقي..!
يعود بنا تسونامي رفع الأسعار الجديد، إلى تلك الأيام التي «تصدت» فيها قنوات مثل «سما/ الدنيا» و«الإخبارية» وغيرها، إلى جانب العديد من الصحف وصفحات الفيس بوك، لإحدى موجات ارتفاع الأسعار التي كان خلالها د. قدري جميل نائباً اقتصادياً ووزيراً للتجارة الداخلية وحماية المستهلك بوضع اللوم عليه: «كلو من قدري جميل»..
وتجد اليوم على صفحات الفيس بوك من يكرر العبارة السابقة متهكماً على الإعلام الرسمي وشبه الرسمي ومنطقه، بما يعكس قناعة عميقة بأنّ رفع الأسعار ورفع الدعم المتتالي منذ سنوات، وبشكل ملحوظ ابتداء بعام 2005 و«اقتصاد السوق الاجتماعي» سيئ الصيت، وبشكل متسارع باطراد منذ بداية الأزمة السورية، كل عمليات الرفع هذه والتي تم العمل على تحميل مسؤوليتها الكاملة لهذا الوزير حيناً ولذاك حيناً آخر، لهذا المسؤول أو ذاك، لهذه الحكومة أو تلك، يتحمل مسؤوليتها الأساسية «أحدٌ ما» آخر إلى جانب من يتحمل مسؤولية عن ذلك بين هؤلاء. والمفارقة أنّ المسؤول الوحيد الذي عمل جدياً لمواجهة هذه العمليات تمّ فصله بسبب «التغيب عن العمل»! وجرى عمل محموم لتحميله مسؤولية عمليات الرفع واللبرلة حتى بات السوري لا يصدق عينيه وأذنيه وهو يشاهد فضائيات طالما دافعت عن التجار تتحول مؤقتاً إلى نصير شرسٍ للفقراء، هذه القنوات نفسها التي عرضت تقارير «من الشارع» قبل رفع سعر الخبز الأخير- حين لم يعد قدري جميل وزيراً- يظهر فيها مواطنون يطالبون برفع سعر الخبز لـ«منع التجار من استخدامه علفاً للمواشي»! النكتة السمجة التي تكاد تتغلب على طرفة: «الناس خرجوا في حي الميدان الدمشقي ليشكروا الله على هطول المطر»، وليس للتظاهر معاذ الله..!
أياً يكن من أمر فإن هنالك «أحد ما» يمرر هذه العمليات المختلفة ناسباً إياها للحكومات أو أفراد منها، معظمهم ليس بريئاً من ذلك بطبيعة الحال.. ولكن ما بات واضحاً بالنسبة للسوريين أنّ من يتحكم بالوضع الاقتصادي في سورية، إنما يتحكم به لمصلحة التجار والأغنياء بمواجهة الأغلبية المسحوقة من السوريين، وأنّ ذلك الـ«أحدٌ ما» المتحكم بالأمور عابر للحكومات المختلفة التي لم يؤد تغير أي منها إلى تغير الاتجاه العام نحو اللبرلة والخصخصة..
الـ«أحدٌ ما» ذاك ليس شخصية أو فرداً، وإنما هو نظام سياسي- اقتصادي متكامل الأركان، نظام «رأسمالي طرفي» ما يزال تغييره تغييراً جذرياً وطنياً ديمقراطياً شاملاً وسلمياً استحقاقاً قائماً تتعاظم أهميته مع تعمق الأزمة، ويتحول هذا التغيير أكثر فأكثر إلى ضرورة لبقاء سورية ولبقائها موحدة أرضاً وشعباً، وللحفاظ على دورها الوطني في مواجهة المخططات الأمريكية- الصهيونية وفي تحرير الأراضي المحتلة والسليبة..
إنّ الموجة الجديدة من رفع الأسعار تعيد إلى الأذهان أيضاً الهذر الذي كان يجري ترويجه لتبرير توسع معدلات الفقر والبطالة وانخفاض أرقام النمو، حيث «الخطأ في التطبيق» ولكن «السياسات صحيحة»، تحت هذه الشعارات كان يجري الانتقال من فشل إلى فشل مع الحفاظ على الليبرالية واقتصاد السوق نهجاً ومقصداً..
إنّ النظام السياسي في أي دولة من الدول يجد تعبيره الجوهري في طريقة توزيع الثروة بين أصحاب الأرباح وأصحاب الأجور، بين المنتجين الحقيقيين وبين مستغلي إنتاجهم، والنظام السياسي في سورية وزّع الثروة قبل الأزمة على نحو (75% للأرباح، و25% للأجور) وخلال الأزمة وصل التوزيع إلى (80% للأرباح، و20% للأجور). إنّ هذه النسبة تعبر التعبير الأوفى عن حقيقة النظام السياسي وجوهره، ويغدو طبيعياً بعد ذلك أن تعبر الحكومات المتعاقبة عن هذا النظام، وإن كان ذلك لا يبرئ ساحة تلك الحكومات بطبيعة الحال، ولكنه يقدرها حق قدرها، فلا يحولها دريئة يتلطى وراءها الفاسدون الكبار وطبقتهم الفاسدة التي استشرى تغلغلها في جهاز الدولة وسيطرتها على مفاصل متعددة فيه حتى باتت تمرر مصالحها دون مقاومة جدية من داخل هذا الجهاز.. يعزز موقع تلك الطبقة «مؤقتاً» صوت الرصاص الذي يكتم أصوات الناس فلا يتمكنون من رفع آلامهم وصراخهم وجوعهم في وجه وقاحة لم تكن غريبة يوماً عن الفاسدين الكبار ولكنها غدت اليوم علنية.. وفوق ذلك فهم يزاودون على الشعب السوري وصموده وتضحياته بأنّ كل ذلك «ثمن لا بد من دفعه»، حتى ولو صب هذا الثمن في جيوبهم وليس في مصلحة سورية..
عند هذا الحد يصبح مفهوماً معاداة هؤلاء لأي حل سياسي ومعاداتهم لخروج سورية من أزمتها، فهذه الأزمة بالذات هي المناخ الموضوعي الملائم لتكريس تغلغل الفاسدين الكبار وتسلطهم ومشروعهم في سورية..