التحضيرات الروسية والمسؤولية الوطنية
تتوالى التصريحات والتحركات الروسية التي تبشر بقيام جهود جدية جديدة تهدف إلى إحياء مسار الحل السياسي في سورية، ضمن مؤسسة جنيف وقاعدته، بهدف أول يتمثل في وقف نزيف الدماء ووضع حد للكارثة الإنسانية التي تستمر وتتعمق مع اقتراب الأزمة السورية من إنهاء عامها الرابع، وهي تزداد تدميراً ودموية وتهديداً لبقاء سورية موحدة أرضاً وشعباً مع كل يوم جديد من أيامها.
السؤال المفصلي اليوم هو إلى أي حد يمكن لسورية ضمن تفاقم أزمتها أن تحتمل أية تسويفات أو محاولات إفشال متعددة المصادر للجهود الروسية القائمة؟
إنّ أوضاع سورية والسوريين بعد إفشال اللقاء التشاوري في تموز 2011 كانت أسوأ بالمقارنة مع ما قبله، وقبل «جنيف1» 2012 لم تكن «جبهة النصرة» وأمثالها «بعبعاً» كما غدت بعده، وكذلك لم تكن «داعش» ولم يكن تحالف واشنطن العدواني قبل إفشال «جنيف2». هذا بالإضافة إلى أن مستوى معيشة السوريين كان ينخفض بشكل كارثي بعد إفشال كل مسعى للحل، وباطراد مع كل طور من أطوار الأزمة ومع ضياع كل فرصة، بالتوازي مع ارتفاع منسوب الدم وتفاقم الخراب ونزوح السوريين ولجوئهم في بقاع الأرض كلها.
إنّ كل فرصة للحل السياسي تمت إضاعتها في السابق، لم تكلف سورية والسوريين مزيداً من الدم والتدمير فحسب، بل ورفعت معدلات الخسارة ورفعت احتمالات الذهاب إلى المجهول. وإذا كانت الأمور تذهب نحو الأخطر بعد كل فرصة ضائعة، فإنّ المؤشرات جميعها اليوم تؤكد أنّ الاحتمالات الخطيرة التي من الممكن الذهاب إليها في حال «تفشيل» الجهد الروسي الراهن من أجل استعادة مسار الحل السياسي، ستشمل العودة بالتدخل الخارجي إلى مربعاته الأولى المطلوبة أمريكياً، والمتمثلة بالتدخل العسكري المباشر، سواء بصيغة مناطق عازلة أو ضربات جوية شاملة أو تقسيم أو غيرها.
إنّ الحل السياسي بوصفه مخرجاً حقيقياً وحيداً من الأزمة السورية قد نضج موضوعياً منذ السنة الأولى من الأزمة، وكل التأخير في تحقيقه كان مسؤولية العوامل الذاتية الخاصة بالقوى الدولية والإقليمية والداخلية المتشددة، كل على حدة، وفي مقدمة هذه القوى جميعها واشنطن وحلفاؤها.
الآن وبعد تقدم عملية تظهير ميزان القوى الدولي الجديد، بدأت بشكل متسارع عملية تذليل العراقيل التي تضعها القوى المتشددة المختلفة في طريق الحل، ومن بين تلك العراقيل الطروحات المتشددة والشروط المسبقة، وأشكال التمثيل والحضور في جنيف2، ويجري اليوم تباعاً تبلور وتقديم وتقبل أو عدم ممانعة الأفكار الروسية حول ضرورة وسبل تجاوز العراقيل كافة.
إنّ المسؤولية الوطنية تفرض على الأطراف السورية جميعها، التخلي عن أية شروط مسبقة تخدم حسابات سياسية ضيقة لمصلحة هذا الطرف أو ذاك، بالمقابل فإنّ الحل المطلوب له أهداف ومبادئ عليا، لا تعد شروطاً مسبقة، ولا يمكن أن يتم الحل دونها، ويمكن تلخيصها بالتالي:
- وحدة سورية أرضاً وشعباً
- الحفاظ على دور سورية التاريخي في مواجهة المشاريع الأمريكية والصهيونية
- الحفاظ على جهاز الدولة
- الذهاب نحو التغيير الوطني الديمقراطي العميق والشامل، السياسي والاقتصادي-الاجتماعي والديمقراطي المستحق منذ ما قبل الأزمة بسنوات عديدة، والذي لا يمكن لسورية أن تستمر دون تحقيقه.
إنّ مسؤولية الوطنيين السوريين أينما وجدوا هي دعم جملة هذه الأهداف والمبادئ وإقناع جميع الأطراف بانعدام الجدوى من شروطها المسبقة، وأوهامها السابقة التي تجاوزتها تطورات الأزمة ذاتها، وفي نهاية المطاف فإن ذاكرة السوريين حية وتعرف من يصر على قذفهم نحو المجهول ومن يتحمل مسؤولياته الوطنية والتاريخية عند المنعطفات والأزمات الكبرى.