مضمون الحل السياسي
تسود اللوحتين السياسية والإعلامية المحلية والعربية وحتى الدولية، جملة متناقضة من التفسيرات والتحليلات المتعلقة بالتطورات الدبلوماسية الأخيرة للأزمة السورية. وعلى الرغم من التناقضات العديدة في تلك التفسيرات إلا أنّها تقر جميعها بانفتاح الأفق مجدداً أمام عودة مسار الحل السياسي في سورية، الأمر الذي يعني ضمناً أنّ التلاعب الإعلامي بالتسميات والآجال وغيرها من القضايا الشكلية ليست إلا محاولة للتشويش على الحل، وهي تعكس آمال أطراف لا تريد التخلي عن مقولات «الحسم» و«الإسقاط»، وهي المحاولات التي سرعان ما ستذهب أدراج الرياح مع التقدم باتجاه الحل.
إنّ ما ينبغي الوقوف عنده هو المضمون الحقيقي للحل السياسي، والذي يتكثف في قضيتين أساسيتين:
الأولى، داخلية تتعلق بالخطوات العملية المطلوبة لخروج جدي من الأزمة، عبر وقف التدخل الخارجي بأشكاله المختلفة، ووقف العنف وإطلاق عملية سياسية محتواها تغيير جذري شامل وعميق للنظام ولجهاز الدولة بما ينعكس على المجتمع، بحيث يؤدي هذا التغيير إلى ضمان الحد المطلوب من الوحدة الوطنية اللازم للحفاظ على وحدة البلاد أرضاً وشعباً والضروري لمواجهة التحديات المختلفة بما فيها الإرهاب، وصولاً إلى محاربة حقيقية للفساد وإعادة لتوزيع الثروة بما يسمح للبلاد بإدارة وطنية جدية لملفات عديدة، متراكمة وناشئة، بما فيها عمليات إعادة الإعمار.
القضية الثانية، دولية تتعلق بالتوازن الدولي الجديد وتشكل انعكاساً له، إذ أن حلاً سياسياً للأزمة السورية بالمضمون الذي أشرنا إليه أعلاه يشكل تعبيراً عن التوازن الدولي الجديد، وبالتالي تعبيراً عن الاتجاه الموضوعي لسير الأمور بغض النظر عن إرادات الأشخاص والجهات، بما يبقي سورية في خانة المواجهة مع المشروع الإمبريالي الأمريكي الصهيوني، ويحافظ على موقعها ودورها التاريخي، ويسمح لها بحل المسألة الوطنية، أي تحرير الأراضي السورية المحتلة. وهذا يعني ضمناً أن تلك الإرادات التي ستظل مصرةً على ممانعة أو عرقلة هذا الاتجاه الموضوعي سوف لن تجد لها مكاناً تحت الشمس في المستقبل السوري.
إنّ الأداة الأساسية التي ما تزال «واشنطن» تستخدمها في إعاقة الحلول السياسية، هي تشبيك جميع الملفات العالمية بعضها ببعض، بحيث يشكل كل منها معيقاً لتطور الملفات الأخرى. لكن التقدم الهام الذي أحرز مؤخراً في الملف النووي الإيراني يدل على خضوع أمريكي تدريجي للميزان الجديد، الأمر الذي يعني ضمناً أن رهانات ممانعي الحل السياسي على سياسة واشنطن هذه ستخسر كرهاناتهم الأخرى.
إنّ الحل السياسي يعني الامتثال لرأي السوريين الذين كتمت الحرب أصواتهم، ليقولوا كلمتهم في شؤون دولتهم جميعها، ولذلك فإنّ أولئك الذين يخافون رأي السوريين فيهم هم الأشد ممانعة للذهاب نحو الحل السياسي المطلوب، والذي كان ولا يزال ضرورة وطنية قبل أي شيء آخر. فإيقاف نزيف الشعب والجيش السوريين ووضع حد للكارثة المتعمقة، ووضع حد لحيتان الفساد الكبير الذين ضربوا معدلات قياسية في نهب وتجويع الشعب السوري، كل هذه الأمور موضوعة على جدول التنفيذ الفوري وغير قابلة للتأجيل أو التسويف، فاستمرارها كفيل بالانزلاق إلى الهاوية التي تقف سورية أرضاً وشعباً على حافتها.
إن التغيير الوطني الديمقراطي الجذري والعميق والشامل الذي يحافظ على وحدة سورية أرضاً وشعباً وموقعاً جيوسياسياً ليس نابعاً عن رغبات «إرادوية» لدى هذا الطرف أو ذاك، وإنما هو ضرورة موضوعية يثبت انفجار الأزمة ومجرياتها استحقاقها وموجباتها التي تشمل ضمناً قيام توافقات وتسويات وتنازلات متبادلة، بما يؤدي إلى إحداث تلك التغييرات اللازمة في النظام السياسي التي تنعكس في تغيير دستوري وقانوني، يفضي إلى فصل حقيقي للسلطات وضمان حق المواطنة والمساواة بين جميع السوريين فعلياً، ووضع وتفعيل القوانين اللازمة للإعلام والأحزاب والانتخابات التي تضمن بناء نظام تعددي سياسياً، وعادل اجتماعياً بما يضمن عدم إعادة إنتاج الأزمة.