الطور المعقد من الأزمة الرأسمالية.. خيارات المواجهة!!

الطور المعقد من الأزمة الرأسمالية.. خيارات المواجهة!!

كان لاندلاع الأزمة الرأسمالية العالمية في عام 2008 آثاراً ونتائج اقتصادية وسياسية نوعية وهامة، ومع انشغال العالم بالنتائج الاقتصادية الكارثية للأزمة خلال الأعوام الأولى التي تعمقت على مدار السنوات اللاحقة، تطورت الأزمة إلى مراحل خطيرة جداً والتي باتت تنذر بالكثير.

بين «الطور الأول» و»الثاني»!
لقد تميز «الطور الأول»، إن صح التعبير، للأزمة بمحاولة الخروج الآمن منها بإجراءات اقتصادية تسمح بإدارتها جماعياً لمنع وصول التناقضات بين مختلف القوى الاقتصادية إلى مرحلة خطيرة، وعلى ذلك تم تشكيل مجموعة العشرين الاقتصادية التي ضمت أكبر 20 دولة من حيث حجم ناتجها الاقتصادي في محاكاة لمجموعة الثمانية الكبار وذلك لأجل «تحسين» إدارة النظام الاقتصادي العالمي وجعله أكثر «عدالة» و»ديمقراطية»!.
لاحقاً ظهرت التجليات السياسية للأزمة كانعكاس للأزمة الاقتصادية في عام 2011 مما شكل طوراً جديداً مركباً للأزمة. فمع عودة الجماهير للشارع والتي خرجت نتيجة إملاقها ورغبتها بالعدالة وتحديداً في المناطق التي كانت الولايات المتحدة تعتبرها جزءاً من نفوذها، بدأت الأزمة تنتقل إلى ما يمكن تسميته مجازاً «الطور الثاني». تعقدت الأزمة بدخول أبعاد سياسية وأمنية والعسكرية، وإن برزت إلى الواجهة التناقضات السياسية، إلا أن الجانب الاقتصادي المأزوم مثل أرضية الصراع طوال الوقت. فتحرك الولايات المتحدة وحلفائها الأقرب عسكرياً وسياسياً عبر أدواة «الفاشية الجديدة» وغيرها كان لضمان تأمين خطوط امدادهم الاستراتيجي لمصادر الطاقة وأسواق التصريف، وذلك لتحسين شروط خروجهم من أزمتهم الاقتصادية عبر منع المنافسين من التمدد أكثر في مناطق نفوذهم وتحديداً الصين وروسيا وحلفائهم.
حرب العملات الوطنية
مع نهاية عام 2012 وبداية عام 2013، خفضت الولايات المتحدة من مستويات ضخ الدولار في الأسواق العالمية وذلك تمهيداً لرفع أسعار الفائدة ورفع سعر الدولار لديها وذلك بعد استشعارها إمكانية تحسن طفيف في اقتصادها، الناتج عن سياسات الانعاش وضخ الدولار في الأسواق وتخفيض سعره، وهو ما أنذر بهروب الرساميل من أسواق الدول الصاعدة، مما أثار غضب تلك الدول التي انهارت عملاتها كالبرازيل والهند واندونيسيا وتركيا وروسيا، وهو ما دعا رئيسة البرازيل ديلما روسيف للاحتجاج حينها.
كان هذا الإجراء الاقتصادي، الذي رآه البعض اقتصادياً تقيناً من حيث الشكل، خرقاً لمفهوم الإدارة الجماعية التي قامت على أساسه مجموعة العشرين، وهو ما رآه كثر «إعلان حرب» بدرجة ما على العديد من المراكز الاقتصادية التي تخشاها الولايات المتحدة على المستوى الاستراتيجي، وردت تلك الدول المناهضة لسياسات الولايات المتحدة على مثل تلك الإجراءات بتعزيز تضامنها والذي برز بشكل واضح بإعلان دول البريكس (البرازيل –روسيا – الهند- الصين- جنوب إفريقيا) إنشاء «صندوق نقد» و»بنك للتنمية» خاص بها في مواجهة احتمال أزمات العملات والسيولة الدولية.
منذ تلك اللحظة لم تعد آليات النظام الاقتصادي الدولي الاعتيادية وحدها قادرة على إنقاذ النظام العالمي دون اضطرار مركزه الأكبر، أي الولايات المتحدة في ظل تناقض مصالحه الاقتصادية مع المراكز الأخرى، للتحكم وبشكل هجومي وعنيف بأدوات اقتصادية وسياسية وعسكرية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في ظل الأزمة المستمرة.
بين أزمتين: السورية والأوكرانية!
مع بداية عام 2014 عانت الولايات المتحدة من تصاعد أزمة المديونية التي شلت إقرار الموازنة الحكومية لمدة شهر وانتهت بإقرار الحكومة الأمريكية خططاً تقشفية طالت لأول المرة النفقات العسكرية. مثل ذلك نقطة تحول استراتيجية في تاريخها وتاريخ الصراع الدولي، حيث بدا الارتباك والتردد الأمريكي واضحاً وتحديداً بخياراته العسكرية، ففي آب 2013 إبان احتمال الاعتداء على سورية في ظل ما عرف بـ»أزمة الأسلحة الكيميائية»، كان التراجع الأمريكي عن الاعتداء إقراراً بتراجع اقتصادي-عسكري وسياسي، والذي تثبت لاحقاً على الورق بتخفيض النفقات العسكرية في الموازنة الأمريكية لأول مرة بتاريخها، ففي ظل الموقف الروسي الذي أخذ قراراً بالمواجهة وردع التدخل الامريكي المباشر بكل الوسائل ومواقف بقية الحلفاء كإيران والصين، كانت احتمالات العداون على سورية تعني الكثير من النفقات والخسائر.
ردت الولايات المتحدة على تراجعها في مقابل خوفها من الخطر الروسي والصيني بإشعال أوكرانيا، واستخدمت بداية لذلك أدوات سياسية وأمنية تمثلت بدعمها لقوى الفاشية للوصول إلى سدة الحكم في أوكرانيا ولاحقاً قامت بالضغط على الاتحاد الأوروبي لاستخدام الحصار الاقتصادي كورقة ضغط على روسيا، وتحديداً في قطاع الغاز أهم وأبرز القطاعات الحيوية فيها ، وهو مادفع الروس لأيجاد بديل ما عبر الصينين، كما هددوا مقابل ذلك بإجراءات عقابية تؤدي إلى تخفيض تدفق الغاز إلى أوروبا.
وعلى هذا دخل العالم طوراً جديداً في الصراع الناتج عن الأزمة الاقتصادية، فمن اجتماع دولي عقب أزمة عام 2008 (قمة العشرين) لأجل إيجاد أدوات اقتصادية بحتة للحل الآمن انتقلنا إلى مرحلة استخدام أدوات اقتصادية، عدائية كالحصار وغيره، وعسكرية -سياسية تقصي وتدمر العديد وقد تنقذ أو لاتنتقذ البعض الآخر من مستخدميها وهو ما يعني بدء «مرحلة المواجهة». 
الأزمة في ظل مرحلة «المواجهة»...
انعكست مجمل الأزمات تعقداً في الحلول وصولاً لاحتمالات المواجهة على كافة الصعد الاقتصادية والعسكرية وغيرها، فالحصار على روسيا الذي ورطت فيه الولايات المتحدة أوروبا الغارقة في الركود، أرخى بثقل خسائره على أوروبا والمقدرة بـ40 مليار دولار، وعلى ذلك تقول أحدث التقارير بأن الصادرات الألمانية انخفضت بنسبة 5.8% في آب 2014، في أكبر تراجع لها منذ ذروة الأزمة المالية العالمية في كانون الثاني 2009 وذلك حسب مكتب الإحصاء الاتحادي. وقال خبراء إن هذا التراجع يعد دلالة جديدة على أن أكبر اقتصاد في أوروبا يتخبط وسط ضعف في منطقة اليورو وأزمات خارجها. وهو ما يمثل تطوراً لافتاً على صعيد الأزمة الاقتصادية العالمية والأوروبية خصوصاً، حيث يعتبر الاقتصاد الألماني قلب الاتحاد الأوروبي الذي لم يصب بالتراجع الكبير حتى ساعة هذا الإعلان، بل ظل مصدر النمو الأساسي في منطقة اليورو طوال فترة الأزمة المندلعة منذ عام 2008 التي تعمقت مع تفاقم أزمة المديونية في منطقة اليورو. ترافق ذلك مع ارتفاع عدد العاطلين عن العمل في ألمانيا أكثر من المتوقع خلال شهر أيلول، مما يشير إلى أن سوق العمل بدأ في الضعف بعد انكماش الناتج خلال الربع السابق. لقد أدت هذه النتائج على تصاعد حدة النبرة الألمانية ضد الولايات المتحدة لأول مرة منذ عقود من الهيمنة الأمريكية عليها، بلغت حد الحديث عن ضرورة الابتعاد عن أمريكا وإيجاد موقف ألماني مستقل ومتفاهم مع الروس.
حرب النفط!
وأمام التراجع الاقتصادي في أوروبا، سعت روسيا بدأب لإيجاد بدائل اقتصادية هامة للدفاع تمثلت بالبريكس وإنشائها الاتحاد الأورواسي وتطويرها لمنظمة شنغهاي مع الصين واعتماد عملاتها المحلية في بعض تبادلاتها المالية مع لصين وغيرها. رافق ذلك تقدم الصين الاقتصادي دولياً والحديث عن مسعى الصين لجعل الليوان عملة دولية وهو ما لاقاه وزير المالية البريطاني جورج أوزبورن الخميس 9 تشرين الأول فرصة لتحفيز الاقتصاد البريطاني المريض حيث شرعت وزارة الخزانة البريطانية في تنفيذ الخطوات الإجرائية لإصدار أول أصول سيادية بالعملة الصينية اليوان فرضة، أوزبورن حذر أيضاً من  مخاطر انزلاق منطقة اليورو في براثن الأزمة مجدداً بعد بيانات اقتصادية ضعيفة في الآونة الأخيرة.
أمام كل ذلك بدأت الولايات المتحدة حربها الأخطر ربما، فقامت بالعمل على تخفيض أسعار النفط إلى حوالي 86 دولار للبرميل وهو أدنى مستوى له منذ حزيران 2012 بعد أن كان عند 108 دولارات للبرميل قبل شهرين فقط، وهو ما ترافق مع ارتفاع الدولار لأعلى مستوى له خلال عام.
فسر البعض ذلك بارتفاع الدولار الناتج عن حديث « المصرف الفيدرالي الأمريكي» عن رفع أسعار الفائدة مع نهاية العام، إلا أن التفسير الدقيق لهذا الانخفاض هو زيادة كمية المعروض من النفط من قبل السعودية وخفض سعره وذلك بأمر من الولايات المتحدة وفي إطار الصراع الاقتصادي السياسي الأمريكي- الروسي، فارتفاع النفط يضر بالاقتصاد الروسي أحد أهم المصدرين له كما يضر بالاقتصاد الإيراني. لكن هذا الإجراء غير محسوم من ناحية الأضرار التي قد تطال الولايات المتحدة نفسها حيث تعتبر الولايات المتحدة منتجاً للنفط الصخري الذي يتم العمل لجعله بديلاً استراتيجياً والذي يعتبر الاقتصاديون أن أسعاره فيما لو انخفضت عن 80 دولار للبرميل ستكون مخسرة للولايات المتحدة وإنتاجه غير مجدي بالتالي، كما أنه يفيد الاقتصاد الصيني الذي بدأ بتخزين كميات هامة منه. 
يمثل إجراء فتح المعارك على قطاع النفط والغاز والعملات والعقوبات الاقتصادية المتبادلة سمة المرحلة وهي إجراءات تعني دخول الأزمة الاقتصادية العالمية طور المواجهة المفتوحة، كما يعني أن طوراً من الأزمة الاقتصادية أكثر شمولية وعمقاً وإيلاماً يلوح في الأفق، فالمال والطاقة هما عصب الإنتاج الرأسمالي التي تجاهد الرأسمالية لإنعاشه في ظل تهتك بنيتها وتناقض مصالح مراكزها المختلفة أمام طرق الإنعاش التدميرية والدموية.