ما بعد كوباني!
كتب الكثير عن معركة كوباني، وقيل عنها الكثير، ولا غرابة في ذلك طالما أنها فعل نوعي استثنائي، كسرت تقليد الفزاعة «الداعشية» وقدرتـ«ها» على استباحة مدن، واحتلال مساحات واسعة من الأرض، ومواجهة جيوش نظامية فأصبحت هذه «المعركة الكبيرة» في بلدة صغيرة منعطفاً في الأزمة السورية كلها، لابل تحولاً في الظرف الإقليمي، وربما تأخذ أبعاداً عالمية من حيث الدلالات والمعاني كما يرى محللون..
بغض النظر عن ما تم تداوله من قراءات جزئية وقاصرة للحدث أحياناً، وبغض النظر عن اختلاف زاوية الرؤية إلى المعركة وأبعادها و طبيعتها، والنظر إليها في بعدها القومي الكردي فقط، كما حاولت أن تصورها قوى مختلفة محلية وإقليمية ودولية، بعكس ما صرح به العديد من المقاتلين وقادتهم على الأرض وتعبيراتهم السياسية مراراً...
نتائج أولية؟!
حقق صمود عين العرب جملة نتائج ذات أهمية سياسية بالغة ستترك تأثيرها بكل تأكيد على حالة الاصطفاف القائمة بين القوى الدولية والإقليمية والمحلية:
• اتساع دائرة الشك والريبة تجاه الغايات الحقيقية للتحالف العتيد، وصولاً إلى التشكيك بجديته في القضاء على داعش، فالعديد من الوقائع التي حدثت على الأرض ومنها قصف مواقع التنظيم بعد نصف ساعة من إخلائها في الرقة ودير الزور و توجه قوافل الدبابات والمدافع والآليات المحملة بالمرتزقة إلى محيط عين العرب دون أي اعتراض من ما يسمى قوات التحالف، وعلى مرأى ومسمع الجيش التركي أيضاً، وضع الطرفين في دائرة الشبهة، ولا يلغي ذلك محاولات التحالفات الدخول على الخط بزخم أكبر في ضرب مواقع داعش في محيط المدينة دون المساس حتى الآن بطرق الإمداد والتموين بعد الصمود الأسطوري للمقاتلين، وبعد الرسائل العديد من القوى الدولية الرافضة للمشروع الامريكي الأمر الذي يؤكد – على الأقل- على حقيقة رغبتها في استدامة الاشتباك، والاستمرار في محاولات ابتزاز كل الأطراف المتصارعة كما كان دأبها منذ بداية حربها المزعومة على الإرهاب في 2001 .
• تباين المواقف حيال آفاق التحالف ودور القوى الإقليمية وخصوصاً تركيا، فتركيا المتهمة بدعم وتمويل داعش، حاولت أن تستثمر في الظرف الناشىء بهدف تحقيق حلمها بإنشاء ما يسمى المنطقة العازلة، الأمر الذي لاقى تجاوباً سريعاً من الرئيس الفرنسي هولاند؟!، في حين قالت واشنطن إن إنشاء مثل هذه المنطقة ليس على جدول الأعمال، ليتعزز هذا الموقف من قبل قيادة حلف الاطلسي مباشرة، الأمر الذي يعكس حقيقة توازن القوى الدولي، وعدم قدرة الإدارة الامريكية على الاستفراد بالقرار في القضايا الاستراتيجية.
• تفجر الأوضاع الداخلية في تركيا من خلال الاحتجاجات العارمة، وتوتر الأوضاع وصولاً إلى إطلاق الرصاص الحي على المحتجين في العديد من المدن، وبروز دور التنظيم التكفيري الذي واجه المحتجين بالسلاح في بعض المواقع والمسمى بـ«حزب الله» الذي يحمل علم داعش على مرأى ومسمع السلطات التركية.
• أثبتت عين العرب أن تجربة المقاومة الشعبية هي الحل الأنسب في مواجهة قوى التكفير، مما سيؤدي بكل تأكيد إلى امتداد التجربة إلى مناطق سورية أخرى.
في ملعب الكبار.. في دائرة النار؟
بعد الموقف الصلب الذي أبداه الروس والصينيون في منع التدخل العسكري الغربي المباشر إثر حالة التوازن الناشئة على المستوى الدولي، ازداد دور المراكز الإقليمية في الساحة السورية، ومنها تركيا التي أخذت هامشاً واسعاً من الحركة يفوق حجمها و يتجاوزما هو مسموح به في التوازنات الدولية، اكتسبت تركيا هذا الدور من خلال احتضان وتمويل الجماعات المسلحة وتسهيل مرور المسلحين القادمين من الخارج وصولاً إلى التحكم بحلقات أساسية في العمل العسكري، ولعبت دور الوكيل الأول في التدخل غير المباشر، ومع بدء التدخل المباشر إثر إعلان ما يسمى بالتحالف الدولي حاولت تركيا اللعب في الملعب نفسه لتصل بها الوقاحة إلى غطاء دولي لاحتلال الشمال السوري تحت مسمى الحماية الدولية، الأمر الذي لقي رفضاً روسياً وإيرانياً واضحاً مرة أخرى، لتصاب بخيبة أمل جديدة كما يبدو، فحاولت ممارسة عملية ابتزاز رخيصة مع «صالح مسلم» رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي في زيارته الأخيرة إلى أنقرة، واضعة جملة شروط حسب ما صرح العديد من مسؤوليها، لتضع بذلك كوباني ومقاومتها بين خيارين يكملان بعضهما إما أن تتدخل تركيا، أو تدخل داعش رغم كل ما يعنيه ذلك من؟!
ماذا تريد حكومة
اردوغان - اوغلو؟
تحاول تركيا منذ سنوات وبحركات استعراضية غير ذات جدوى فعلية تقديم نفسها على أنها زعيمة العالم الإسلامي، وممثلة لما يسمى بـ«الإسلام المعتدل»، ومن جملة ما حاولت الوصول إليه احتواء الملف الكردي، فهي من جهة احتوت بعض القوى الكردية المنضوية في ما يسمى «الائتلاف الوطني»، ومن جهة أخرى ضغطت على قوى المقاومة في كوباني من خلال التهديد بداعش.. محاولة بذلك وضع المقدمات لشطب المسألة الكردية من جدول الأعمال نهائياً، حتى لو أدى ذلك إلى تهجير مئات الآلاف من بيوتهم وأراضيهم، وارتكاب مجازر، أو امتداد الحريق إلى تركيا نفسها خدمة للرأسمال المالي الإجرامي والفاشية الجديدة ومشروعها بإحراق الفضاء الجغرافي والسياسي والاقتصادي المحيط بالقوى الدولية الصاعدة في الشرق، وتحديداً روسيا والصين..
معركة وطنية بامتياز؟!
إن جملة النتائج الأولية آنفة الذكر صبت جميعها باتجاه تثبيت خيارات أخرى ممكنة في مواجهة القوى التكفيرية، ومنها خيار المقاومة الشعبية وباتجاه إجهاض عملية تبادل الأدوار بين واشنطن وأنقرة، فكل الوقائع كانت تشير إلى استعداد تركي إعلامي، وميداني عسكري على الأرض بدءأ من تفويض البرلمان للحكومة بعمليات برية في العراق وسورية، وتحشيد القوات العسكرية على الحدود، والتباكي على قبر «سليمان شاه بن قتلمش وارطغرل» الواقع تحت السيادة التركية في الأراضي السورية بموجب اتفاقية موقعة بين أسلاف هولاند، وأوغلو عام 1922 ولكن جاءت الرياح بعكس ما تشتهي سفينة التحالف المشبوه، فكانت هذه المقاومة البطلة التي عرقلت المشروع وأطاحت بكل المعادلة المرسومة أمريكياً وتركياً.
وبذلك أعطت هذه المقاومة لنفسها بعداً وطنياً ذات طابع استراتيجي، من خلال منع احتلال الأراضي السورية،وردع الأطماع التركية، ناهيك عن تأكيد المقاومة الدائم بأن كوباني أرض سورية، وأنها قوة مقاومة وطنية سورية تدافع عن سورية، وتضامن السوريون معها في طول البلاد وعرضها، وتأكيدها على وحدة البلاد، ورفض التقسيم والتفتيت.
حذار من واشنطن وحلفائها؟!
التجربة الكردية مع الغرب عموماً، ومع واشنطن خصوصاً تؤكد أنها دائماً حاولت استخدام الورقة الكردية كورقة ضغط لا أكثر ولا أقل، وهي حتى الآن تدرج حزب العمال الكردستاني في قائمة المنظمات الإرهابية، وعبر التاريخ كانت تتخلى عن الأكراد في المراحل الانعطافية الحاسمة، لذا فإن أي مستوى من التعويل «الكردي» على المشروع الأمريكي، هو ضربة في الصميم لكل ما أنجزه المقاومون الأبطال من وزن نوعي، ويجعلها عرضة للمساومات والصفقات الدولية والاقليمية فمصلحة الكرد تتقاطع اليوم مع مصلحة تلك القوى الدولية والشعبية التي تسعى إلى لجم العدوانية الامريكية المستفحلة على خلفية الأزمة التي تمر بها، وفتح الطريق للتغيير الجذري والشامل، وصولاً إلى وحدة نضال شعوب الشرق عموماً على قاعدة وحدة المصالح والمصير والتاريخ المشترك والاعتراف المتبادل بالحقوق.