النخب بين صراع الأيدولوجيات وصراع الحضارات
النخب في المفهوم البرجوازي، هي تلك الصفوة من المجتمع التي تساهم بشكل فعّال في تطوير الجانب المادي-التكنولوجي والفني- الإداري من جانب ، وفي تطوير الجانب الثقافي - الفلسفي - الروحي للمجتمعات وللبشرية، وهي طليعة البرجوازية الصغيرة في دول المركز الرأسمالي، التي تتشكّل في أحشاء المنظومة الرأسمالية ذاتها، وموظفة في خدمة هذه المنظومة، وتبقى تابعة لها في البنية وفي الوظيفة، طالما المنظومة الرأسمالية قائمة..
وهو ما يدحض، أو على الأقل يفرض إعادة التفكير بمدى علمية ودقة أطروحات البعض من المثقفين التي تقول «بأن هذه الفئة قد أصبحت بديل الطبقة العاملة كقوة تغيير أو أصبحت بجانبها قوة تغيير» بعد التحولات التي طرأت على وسائل الإنتاج، بفعل التقدم التكنولوجي، والذي تساهم بإنتاجه هذه الفئة، وبالتدقيق في هذه المقولة يظهر بؤسها لأسباب من بينها أنه على الرغم من دور هذه النخب في عملية تطوير التكنولوجيا، إلا أن فعلها هذا لم يؤدِ إلى إحداث أي تغيير يذكر في بنيتها ذاتها أو تغيير نوعي في وظيفتها، فبقيت كما كانت فئة تابعة غير متجانسة، أي لم ولن تتحول إلى فئة قائمة بذاتها ولذاتها لكي تتحول إلى قوة قادرة على إحداث التغيير.
في المقابل فإن نخباً تشكّلت في أحشاء مجتمعات تابعة مستهلكة غير منتجة، وفي أحشاء مجاميع ماقبل الرأسمالية: القبلية العشائرية الطائفية المذهبية الجهوية والمناطقية والإقليمية، فإنها لذلك مشوّهة لناحية النشأة ومرتبكة لناحية الوظيفة، وهي معـوّمة فوق كل هذه الشرائح والمجاميع، وتنحاز الغالبية العظمى منها، إلى مصالح القوى التي تملك السلطة والمال والجاه، وبفعل قانون التبعية في هذه المجتمعات فإن الشريحة السائدة التي تمتلك السلطة والمال هي الشريحة التابعة للمركز، وبناءً عليه فإن الفرز بين صفوف هذه النخب يتم على أرضية الموقف من قانون التبعية بين :
• نخب تابعة للقوى السائدة في الدولة والمجتمع، وهي في حالة دول ومجتمعات المحيط قوى تابعة للمركز الرأسمالي، تعمل على الترويج لنهج التبعية الذي يخضع الدولة والمجتمع لشروط ومصالح المركز الرأسمالي.
• ونخب ملتزمة بمشروع التحرر الوطني، الذي يهدف إلى تحقيق الإستقلال الناجز، عبر متلازمة مشروع التحرر الوطني و مشروع التحرر
• الإجتماعي.
وبسبب تداخل مصالح وثقافة وموروث هذه النخب مع مصالح شرائح إجتماعية متعددة ومتضاربة ومجاميع الماقبل رأسمالية، وبسبب انتمائها هذا وبسبب هذا التداخل فإنها تنزع إلى النهج التوليفي التوفيقي الإنتقائي بين الأيدولوجيات ، بين أيدولوجيات متمايزة، قائمة كل أيدولوجيا بذاتها، أليس هذا ما يحصل على صعيد الأردن وعلى صعيد المجتمعات العربية، قيام النخب العربية بتلفيق توافق أيدولوجي من نمط:
« قومي – إسلامي» أو العكس «ماركسي – قومي» أو العكس و « قومي – ليبرالي » و «ماركسي – ليبرالي » ...ألخ.
يبدو أن البعض يخلط بين الإيمان (الديني) والأيدولوجيا الدينية، والبعض الآخر يعتبر القومية بنية وليست أيدولوجيا، ومن هنا يأتي هذا الإلتباس عندها.
كما تحاول هذه النخب التوليف والتوفيق الإنتقائي (الخلط) بين البنيات التي تستند إليها هذه الأيدولوجيات، حيث:
• تستند الأيدولوجيا القومية إلى بنية قائمة بذاتها، تسمى الأمة.
• تستند الأيدولوجيا الماركسية إلى بنية قائمة بذاتها تسمى الطبقة العاملة.
• بينما الأيدولوجيا الدينية ليس لها موضوعياً ولا في الواقع بنية تستند لها، ليس هناك بنية موضوعية تستند لها لا إسلامية ولا مسيحية ولا بوذية ولا يهودية ولا هندوسية ...إلخ . فيتم تخيل بنية لا تمتلك أي شرط من شروط البنية وتسمى الأمة الدينية.
فالأيدولوجيا بصفتها جزءاً من الوعي الإجتماعي، الذي يتحدد بظروف الحياة الإجتماعية المادية وتعكس العلاقات الإجتماعية، فهي عبارة عن نسق من النظريات: السياسية والحقوقية والدينية، ومنظومة فلسفية وأخلاق وجمالية، ونسق من الأراء والأفكار، التي هي بالضرورة متباينة ومتصارعة، ويأتي هذا الصراع في ميدان الأيدولوجيات إنعكاساً طبيعياً لتباين وتعارض وتضاد مصالح الشرائح والطبقات المتنافسة أو المتصارعة في المجتمع.
فكيف يمكن التوليف والتوفيق بين هذه الإيدولوجيات؟ بالرغم من وضوح التعريف العلمي لمفهوم الإيدولوجيا، وما الذي يفسر إصرار هذه النخب على خلق هجين بالتأكيد غير قابل للحياة، وهو ما أثبتته وقائع التطور الطبيعي للمجتمعات؟.
ولا يقتصر نهج التوليف والتوفيق عند هذه النخب على الصعيد الأيدولوجي فقط، بل تتخطاه باتجاه الحضارة، وكما تمارس هذه النخب التوليف في المجال الأيدولوجي، فهي تمارس الفعل ذاته في مجال الحضارة، فتصبغ على الحضارة سمة دينية: الحضارة الإسلامية أو الحضارة المسيحية و الحضارة البوذية ...الخ، التي لم توجد سابقاً ولن توجد لاحقاً.
ولكي نلمس مدى ديماغوجية وعدم علمية هذا الطرح «صبغ الصفة الدينية على الحضارة» لننطلق من التعريف العلمي لهذا المصطلح التاريخي، الحضارة:
تعـرّف الحضارة بأنها مجمل إنتاج المجتمع، أي مجتمع، عبر التاريخ في المجال المادي والروحي، أي الإنتاج على صعيد البنية التحتية - الإنتاجية - وعلى صعيد البنية الفوقية - الروحية والحقوقية والثقافية – وبما أن الإنتاج الروحي، المقصود الديني هنا، هو مجال واحد من مجالات متعددة لإنتاج المجتمع، فكيف يتم صبغ سمة الجزء على الكل، أليس هذا فعلاً إنتقائياً توليفياً وتوفيقياً لا يخدم بناء المنظومة المعرفية للمجتمع، فعلى ماذا يدل هذا الفعل؟.
بالمقابل نجد نخباً، تنحاز بصدق إلى مشروع التحرر الوطني، تحرص على امتلاك أدوات التحليل العلمي ومنهج التحليل العلمي، من أجل إحداث التراكم المعرفي الحقيقي الذي يشكل إحدى القواعد المادية الضرورية لإحداث التغيير المنشود: الاستقلال الوطني الناجز، من خلال متلازمة مشروع التحرر الوطني والتحرر الإجتماعي.
وتتميز هذه النخب المنحازة لمشروع التحرر الوطني بالاستقامة الأخلاقية في سلوكها اليومي وتطابق النظرية مع الممارسة في نضالها، وتفانيها في خدمة الهدف الوطني، باختصار تمتاز بمناقبية عالية في النضال من أجل تحرير الإنسان من الظلم والاضطهاد والغبن والفقر والجوع ، والاستغلال والضياع والاغتراب، وتعمل على تعزيز أنبل وأرقى القيم الإنسانية في وعي البشر، قيم الجمال والمحبة، قيم الخير والإبداع والابتكار، وتعمل على تعزيز قيم التماسك الاجتماعي ومحاربة الغرائز البدائية وعلى كافة الصعد.
جاء إنهيار منظومة الدول الاشتراكية، بداية تسعينيات القرن المنصرم، إلى زيادة البلبلة المعرفية والفكرية والسياسية والإرباك بين صفوف النخب، مما عمّق سياسة هروب البعض إلى نهج التوليف والتوفيق على صعد الأيدولوجية والحضارية، وفقدان البوصلة على الصعيد السياسي، وفي المقابل تغوّل نخب المركز الرأسمالي على هذين الصعيدن تحديداً، الأيدولوجيا والحضارة، تحت عناوين فاقعة : «صراع الحضارات» و «نهاية التاريخ» .
انتهز المركز الرأسمالي تداعيات الإنهيار، الذي لحق بالمعسكر الاشتراكي، ليعمق من تبعية نخب دول المحيط ،ويتوسع في ضم مجموعات جديدة من بين صفوفها، كذلك عمل المركز على استغلال إنهيار منظومة الأخلاق والسلوك لدي هذه النخب، ليوظفها في التسويق لمشروع وحشي همجي مقامر، مشروع الانتقال من الرأسمالية المنتجة إلى الرأسمالية المضاربة، التي أدت إلى إنزياحات هائلة في الثروة، من يد الدول ليد الشركات متعدية الجنسيات، ومن يد المجتمعات إلى يد قلة من الأفراد، على حساب الدول والمجتمعات، أي على حساب البشر بشكل عام.
ومما ساهم في انتقاء هذه النخب من قبل المركز الرأسمالي، للعب دور هام لمصلحته، الأسباب التالية:
• بسبب ثقافتها وكفاءتها التقنية والإدارية.
• بسبب قدرتها الفائقة على تزييف الوعي الجمعي للمجتمعات التابعة.
• بسبب استعدادها اللامحدود لبيع ذاتها، مما يسهل من استعمالها في مشروع الترويج لمخططات المركز، وبسبب من دونيتها فإنها على استعداد للقيام بما يسمى «الأعمال القذرة» التي توكل لها من قبل الأوساط والمراكز والقوى والأجهزة، لمحاربة قوى التغيير في المجتمعات التابعة، وخاصة عبر سياسة تفكيك صفوفها وتعميق الإختلافات الطبيعية الموجدة بينها وتحويلها إلى خلافات تناحرية.
• بسبب طابعها الانتهازي – التملقي فإنها تمتلك القدرة الفائقة على الانقلاب من موقف إلى موقف بحسب موازين القوى، ولا ضير من أن تقوم بأعمال المقاولة السياسية للشيء وضده في الوقت ذاته.
• وبسبب بؤسها الأخلاقي وغياب الرادع المبدئي لديها، فإنها على استعداد لمقاتلة قوى التغيير الحقيقية في المجتمع، بأكثر الأساليب إنحطاطاً، وأنها مستعدة لتبني كافة الأكاذيب في عملية الدعاية والتحريض، ضد أي كان شخصاً أو قوى، طالما تضمن بذلك إستمرار حالة الإحباط واليأس والقنوط بين صفوف الجماهير ، خدمة لمخططات مشغليها على تعددهم، والتي هي في المحصلة مشاريع الهيمنة على الدول والمجتمعات ، من قبل المركز الرأسمالي ومشاريع صغيرة لقوى التبعية في الداخل.
المبادرة الوطنية الأردنية 21/8/2014