عقلية «الانتصار».. الإنكار والشكلية!

عقلية «الانتصار».. الإنكار والشكلية!

عادت كلمة «خلصت» إلى أدبيات الموالاة المتشدّدة مؤخراً،  الافتراض بأن المعركة قد حُسمت كليّاً لمصلحة طرفٍ بعينه لم يستند عملياً سوى إلى فكرة «موت جنيف» أو «اندثاره»، والتي مثّلت عملياً ترجمة خاطئة لواقع أن «جنيف»، وهو المدخل الوحيد للحل السياسي، قد أزيح مؤقتاً من الواجهة مع لجوء أمريكا إلى توسيع خارطة الحريق عالمياً لتشمل بلداناً جديدة، بينما بقيت مهامه ماثلة على الأرض، والتي يزداد حلّها تعقيداً مع كل تأخير. أما على الأرض، فلا تزال التدخلات الخارجية تفتك بمقدّرات البلاد وبشعبها، والعنف إلى ازدياد، فيما يتراجع مستوى النشاط السياسي مع تعقّد الأزمة الإنسانية وبلوغها مستويات كارثية وغير مسبوقة.

إذاً، هو «الانتصار على المؤامرة» التي بدأت من الخارج، وفقاً للعقلية المذكورة، فيما لا تشكّل ثغرات الداخل سوى الكساء الذي ستر عورة المؤامرة!.. إن الخطورة في مثل هذا الطرح، تكمن في كونه يفتح الباب أمام المؤامرة مجدّداً؛ بمعنى هو يتيح انتهاج الممارسات الاقتصادية- الاجتماعية والسياسية نفسها التي مرّت المؤامرة من خلالها. فكيف يتجلّى ذلك؟
إن العودة إلى الحقبة «الدردرية»، التي أطلقت عملية تصفية دور الدولة الاقتصادي- الاجتماعي، عبر التوجهات والقرارات الأخيرة، كإقرار «التشاركية» بين القطاع العام والخاص، والتعدّي السافر على دعم الخبز، القوت الأساسي للسوريين، والتلويح برفع أسعار الكهرباء والمشتقات النفطية. إن كلّ هذه التوجهات تعني أن لسان حال العقلية المنتجة لها تنظر إلى النظام (السياسي والاقتصادي- الاجتماعي) على أنّه لم يعان من خلل يُذكر، لا قبل انفجار الأزمة ولا بعدها، وأن المشكلة برمتها هي تدخل خارجي نال من سيادة الوطن، وعليه فإن العودة إلى تلك السياسات والتوجهات هو الاستمرار بـ«النهج الصحيح» الذي كان يمضي فيه النظام!. بنتيجة ذلك يُعاد إنتاج الأدوات التي أدخلت المؤامرة إلى الداخل، وبوابات عبور العدوان الخارجي ذاتها، ونقصد الفساد الكبير، الذي يجري تشويه مفهوم مكافحته (أو «يكافح» على الطريقة الليبرالية) فبدلاً من استعادة أمواله المنهوبة إلى الخزينة يجري التركيز على الفساد الصغير، المشتق بالأساس من الكبير، كقضايا الفساد الإداري وتقاعس الموظفين  وغيرها.
إن الخلل في فهم الأزمة، من زاوية جماعة «خلصت»، ليس له جذور معرفية فقط، بل له جذور طبقية أيضاً، فالميل إلى التركيز على «الصراع» مع العدو الخارجي بالتوازي مع إنكار الشق الداخلي للأزمة يهدف بالدرجة الأساسية إلى الحفاظ على نمط توزيع الثروة كما هو- وهذا ديدن البرجوازية- بل ويهدف أيضاً في الظرف الراهن إلى الاستيلاء بدرجة أكبر على حصّة المنهوبين من الثروة. وفي هذا السياق، لعل من المفيد تذكير الذين يحبون «الوطنية»، (بمقدار ما يحبون جيوبهم المملوءة بثروات الوطن)، بأن الوصفة الاقتصادية والاجتماعية التي يدعون إليها هي وصفة العدو الخارجي ذاته، وصفة صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية والبنك الدولي، هذه المنظمات هي الأذرع الاقتصادية للغرب الأميركي- الصهيوني الذي نحاربه على أراضينا. فهل تنفصل الجبهة الاقتصادية عن الجبهات العسكرية والسياسية؟
وأخيراً، فإن كل ما سبق يعالج عقلية «الانتصار» بمعزل عن صحّة فرضية «الانتصار» بحد ذاتها. فهل صحيح أن نقول إن هناك طرفاً قد انتصر على آخر؟! إن الانطلاق من الواقع يقول إن الانتصار يجري عند توقّف التدخل الخارجي في البلاد، الذي تشارك فيه عشرات الدول، وعند تجفيف بؤر التوتر والعنف الرئيسية على مساحة البلاد، وهذا بدوره يمكن الوصول إليه عبر الحل السياسي الشامل والجذري وفتح الآفاق أمام عملية تغيير حقيقية، و مدخلها عملية «جنيف» ببنودها الرئيسية.