جغرافيا الدم و«حماية الأقليات»!
من المقولات التي تم الترويج لها في وسائل الإعلام، وترددت على ألسنة الكثيرين من «الساسة» و «المحللين» في السنوات الأخيرة فكرة «حماية الأقليات» وانطلاقاً من الوضع المتأزم، واستناداً إلى البنية الديمغرافية المركبة لبلدان المنطقة، تحاول قوى عديدة تعميم فرضية في الوعي الجمعي مفادها: من حق «الأقليات» أن تحمي نفسها ، وتنجر إلى الحرب مكرهة، وبالتالي الوصول إلى حروب متعددة الجبهات، والخنادق، وفي هذا السياق تصاعد الحديث عن هذا الموضوع في الأيام الأخيرة بعد ما تعرض له مسيحيو الموصل على يد ما يسمى «تنظيم دولة العراق والشام الاسلامية»
لاشك أن ما تعرض و يتعرض له مسيحيو العراق، والشرق عموماً في ظل الوضع المتأزم في بلدان شرق المتوسط بات يهدد المؤمنين بهذه الديانة وجودياً، ولا شك أيضاً أن كل ما يقال لا يمكن أن يعبر عن حجم المأساة التي يتعرض له هذا الجزء من النسيج المجتمعي في عموم بلدان المنطقة، ولاسيما أن أغلب المقاربات التي تتناول هذا الموضوع لا ترتقي إلى جوهر الموضوع، وأسبابه العميقة، والحلول الحقيقية لهذه الكارثة الإنسانية والأخلاقية، لابل تلعب أحياناً دوراً تضليلياً.
ليست المرة الأولى التي يصبح الوجود المسيحي في الشرق كبش فداء المحرقة الإقليمية، وبالعودة إلى الوقائع التاريخية نجد أن كل حدث في هذا السياق كان مرتبطاً بمحاولة إعادة صياغة خريطة المنطقة، أي بتدخل الدول الكبرى في بلدان المنطقة سواء كان تدخلاً مباشراً أو غير مباشر، لابل أن هذا التدخل جاء أحياناً بزعم حماية الأقليات ودفاعاً عنها، واللافت للانتباه أنه كلما زاد الزعيق عن حماية الأقليات كانت الأقليات تدفع ثمناً أكبر! أي أن هذا الاستهداف تزامن عبر التاريخ بفترات استهداف آخر وأشمل من الدول الكبرى ونقصد به استهداف دول وكيانات المنطقة، أما احتلالاً أو تقسيماً وتفتيتاً أو حروباً، وعليه فإن «استهداف» إحدى الأقليات هو نتاج عملية أعم وأوسع مما تتعرض له أقلية بعينها، بل هي استهداف لبنى الدول والمجتمعات، كلما اقتضت مصلحة صاحب القرار الدولي.
دور الأنظمة والنخب المحلية!
هذا الكلام عن دور العامل الخارجي لاينفي دور الأنظمة الحاكمة في جميع بلدان الشرق بهذا المستوى أو ذاك، فنموذج الدولة الوطنية التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية لم تنجز المهام التاريخية المطلوب منها لا الاقتصادية الاجتماعية ولا السياسية،وبالتالي لم تستطع تحقيق ذلك الاندماج الطوعي العابر للانتماءات الضيقة، لمصلحة الانتماء للدولة، وبذلك تكون قد تركت المجال مفتوحاً لصناعة وتفعيل الصراعات المشوهة.
إن «حماية الاقليات» لا يكون من خلال البروباغندا، والاستثمار في عذابات الآخرين سواء كان من قبل الدول الكبرى، أو من قبل الأنظمة والنخب المحلية، ولا من خلال المواعظ والحديث الوجداني عن الأخوة، بل هي عملية اقتصادية اجتماعية وسياسية، ولا يمكن أن تكون إلا في إطار التطور الموضوعي، الذي يعني في ظروف اليوم عملية التغيير الوطني الديمقراطي الجذري والشامل، دون أي تدخل من قبل الخارج، ودون أي تمييز بين الناس على أساس الانتماء الديني أو العرقي أو الطائفي.
المستهدف الحقيقي!
لا يوجد أحد في جغرافيا الدم غير مستهدف في ظروف اليوم، اللهم إذا اسثنينا عرّابي المشروع الرأسمالي الغربي هنا وهناك، فجميع أبناء المنطقة مسلمين ومسيحيين، سنة وشيعة، عرباً وأكراداً مستهدفون اليوم في ثرواتهم ووجودهم وماضيهم ومستقبلهم في حجيم الشرق، وما يجري لمسيحي العراق اليوم هو قضية المسلمين بقدر ما هي قضية المسيحيين وكل أبناء الشرق.
الأقلية، والأغلبية في حقيقتهما!
لايأتي هذا الترويج الإعلامي لفكرة الأغلبية والأقلية بهذه الصورة النمطية عبثاً، بل هي كما نعتقد جزء من الحرب الإعلامية التي تهدف إلى إنتاج وعي مشوه يلائم مشاريع ومصالح مالكيه، من النخب التي تتنطع للدفاع المزعوم عن «جماعتها» قومية كانت أم مذهبية أم دينية فتعميم مثل هذا الوعي في عقل المتلقي، يبرر سلوك نخبها حتى لو تحالفت مع الشيطان، كما أن هذا الوعي المشوّه ينسجم تماماً مع المشاريع الدولية التي تعمل على إعادة صياغة الخرائط، وتغيير بنى الدول والمجتمعات وبتقاطع مصلحة نخب ما يسمى «المكونات»، ومصلحة أصحاب تلك المشاريع من قوى الرأسمال العالمي يغيب مفهوما الأكثرية والأقلية بمعناهما الحقيقي، من حيث هما أغلبية متضررة من الوضع المتأزم، وأقلية تراكم من خلاله الثروات كونهما أقلية ناهبة ومستفيدة من الوضع المتأزم عابرة لكل مكونات ما قبل الدولة الوطنية، وأغلبية منهوبة أيضاً عابرة لتلك المكونات.