الخبز.. وماذا بعد؟!
لم يعد الخبز «خطاً أحمر». هي مرحلة جديدة؛ من الآن فصاعداً ستكف ماكينات الإعلام الليبرالي الموالي عن التغنّي بـ«أفضال» الدعم الحكومي على المواطن السوري. وستُخفِض الصوت عن أي إجراء ليبرالي آخر. ليس هذا فقط، بل هي تعمل الآن على تحضير «المزاج» لتقبل فكرة التخلّي عن بقية أشكال الدعم، وبالأخص مادتي المازوت والكهرباء..
تحت جنح الظلام، قرّرت الحكومة رفع سعر ربطة الخبز، من 15 ليرة إلى 25 ليرة، أي بمعدّل 66%. قرار الحكومة هذا يحمل من الدلالات السياسية أضعاف ما يحمله من دلالاتٍ أخرى، وبالأخص الاقتصادية التي تَرِد كذرائع لا أكثر؛ فليس خافياً على أحد أن ما سيعود به هذا القرار على الخزينة (60 مليون ليرة يومياً) يمكن الحصول عليه ببساطة من الفساد الكبير، ضمناً ذاك المرتبط بصفقات استيراد الطحين من الخارج، فضلاً عن بقية أشكال الفساد التي يُغض النظر عنها، فيما يسلّط الضوء وبشدّة على جيوب الفقراء كموارد للخزينة. في الوقت الذي يزيد فيه حجم الدعم الحكومي المقدّم لنشاطات تجار السوق وصفقاتهم، وبالقطع الأجنبي، عن دعم المواد الأساسية.
الدلالة الأبرز لرفع سعر الخبز، تكمن في طبيعة المادة ذاتها، التي لطالما وُصفت في مراحل حرجة من الأزمة بأنها «خطّاً أحمر» لن يُمسّ؛ الرسالة التي يحملها هذا القرار تقول عملياً «لم يعد هناك من خطوط حمراء»، وأن زمان دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي وقيامها بهموم المواطن والشرائح الأكثر فقراً قدّ ولّى، وأن المكتسبات التاريخية التي حقّقها الشعب السوري على مرّ عقود ليست خارج دائرة المصالح الليبرالية المتوحشة.
قرار رفع سعر الخبز جاء بمثابة إعلان واضح وصريح عن التخلي عن سياسة الدعم الحكومي للمواد الأساسية؛ فقد سبقه تمهيد إعلامي حثيث، ورافقه هجوم من جانب الإعلام الليبرالي الموالي على دعم الكهرباء والمشتقّات النفطية، بالإضافة إلى الدعوة إلى خصّخصة هذه القطاعات علناً وجهاراً، هذا غير تقديم التبرّيرات الوقحة لقرار رفع سعر الخبز، التي تتلخّص بأن «عشر ليرات إضافية لن تشكّل ضغطاً على المواطن في ظل الظرف الراهن»!.. وكأن جيوب الفاسدين لا تحمل أضعافاً مضاعفة لما سيعود به هذا المبلغ على الخزينة؟ وكأن ما تبقّى في جيوب الفقراء هو ما سيحل الأزمة؟!..
إن قرار رفع سعر الخبز، كاستمرار للسياسات الليبرالية للحكومات المتعاقبة منذ أكثر من عقد من الزمان، جاء ليكون تكاملاً موضوعياً على الأقل مع منطق «الحسم العسكري»، أحادي الجانب فبدلاً من العودة إلى جذور الأزمة الاقتصادية والاجتماعية لحّلها، واستعادة دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي كعملية تاريخية ضرورية لإنجاز الحل السياسي، يجري الإيغال بعمليتين متوازيتين: الأولى تصفية دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، والثانية تكريس الدور القمعي للدولة مع منع توجيهه ضد الفساد الكبير واستعادة أمواله المنهوبة. في حين أن المطلوب في المرحلة الحالية لتمهيد الوصول إلى الحل السياسي هو العكس تماماً.