«تكيّة» بدل «أمة عربية واحدة».. و«دولة» في أنبوب نفط!
حرب ضارية على «رقعة الشطرنج»، تتعدد الجبهات من بلد إلى آخر، ومن موقع إلى آخر ضمن البلد الواحد، بيادق
و«قـ لا ع»، فيلة وأحصنة، وزراء وملوك، الكل في «ساحة الوغى»(!؟)، سواء كان من لم يزل يتشبث بكرسيّ تهشمت ثلاث من أرجله، أو من يحلم بأن يصبح مختاراً حتى لو كان ذلك على أطلال قرية أو محافظة أو إقليم.! الفوضى على أشدها، والفوضى هي بوابة التفتيت، والتفتيت هنا ليس عبثاً بالجغرافيا فحسب، بل هو باب جديد يفتح على المجازر، على النزوح و الهجرة والتهجير، وعلى مزيد من الدم، بما يعني دورة أزمات جديدة تمتد لعقود كما كانت نتائج سايكس بيكو، ودائماً المذبح هو نفسه: خريطة الفوضى حصراً، وليس خرائط لبلدان ودول جديدة يمكن أن تتشكل كما يظن من توقفت خلايا دماغه عن العمل منتشياً بما سيحصل عليه من هذه الكعكة، أو مفجوعاً بـ«حلمه» القومي في «أمة عربية واحدة» الذي انتهى به إلى الانكفاء على طريقة صوفية.
«جوكر» على رقعة الشطرنج!
على الرقعة أيضاً «جوكر»،- في متناول اليد- يخرج كـ«المارد» كلما يصبح «آمر عمليات» خريطة الفوضى في مأزق، كلما تعجز دوائر صنع القرار عن حسم الموقف، رغم ما تمتلك من أجهزة إعلام، واستخبارات، وما يتبعهم من بيادق مأجورين وعملاء وكذبة وكتَبَة وسفلة من «مفوضي» الطوائف والمذاهب والأديان والقوميات..!
يخرج «الجوكر»/ داعش أو ما يشبهه، حسب ما تقتضيه «تجارب الهندسة الاجتماعية» للتحكم باتجاه تطور الأحداث، يخلط الأوراق، يرسل رسائله إلى جميع الجهات، يستدرج الجميع إلى ساحة المعركة، تحت حجة: إن الإرهاب قادم و- طائفتي مهددة- قوميتي مظلومة- من «حقي» ان أدافع عن نفسي، وأتحالف مع من أريد، حتى لو أدى ذلك إلى فتح أبواب جهنم على الجميع!! ..
الخليفة الحقيقي!
وفي الطرف الآخر من الكوكب ترغي واشنطن وتزبد، حديقة البيت الأبيض تصبح مسرحاً للمؤتمرات الصحفية، تدعو أمريكا إيران إلى بحث الوضع العراقي بالمعيّة مع مسألة الملف النووي، إيران ترفض ولكن في الوقت نفسه ليس في جعبتها غير المالكي الذي تمخضت عنه عملية بريمير السياسية وهو المندوب السامي الاول لـ«لشيطان الأكبر» في العراق عقب الاحتلال الامريكي «يا سبحان الله»؟!.. تبدأ الجولات المكوكية يعود بايدن ويأتي كيري، بايدن يهدد بطريقته، «إما خريطتي أو خريطة داعش»، ليرى حتى الأعمى أن لافرق.. هل بايدن هو الخليفة الحقيقي؟؟
استنفار كامل في جغرافيا الدم ليس على أساس وجود مشكلة تخص الجميع كما هو الواقع، وكما هي حقائق التاريخ والجغرافيا، وكما هو مطلوب، بل على أساس مشكلة خاصة لكل طائفة أو قومية أو دين أو مذهب أو قبيلة.. حتى يزحف الجميع على كرامتهم وبطونهم إلى آمر غرفة العمليات، إما بالحج إلى واشنطن أو إلى أحد وكلائها في المنطقة، فيتحالف «عزت الدوري» تحت راية الطريقة «النقشبندية» مع السعودية، و«مسعود البرزاني» يرتمي في حضن أردوغان التركي بداعي «الحق الكردي».. وتتفتق عبقرية بعض جهابذة «الممانعة» عن فتح جديد في الفكر السياسي مفاده: «من الممكن أن يتعاون الأمريكان والنظام في سورية لمكافحة الإرهاب»... هل هناك ما يدعو الى السخرية مثلما يستدعي مثل هذا المشهد؟!!!
دولة في أنبوب النفط!
من إحدى ارتدادات «الزلزال الإعلامي» الداعشي في العراق تواتر الحديث عن نية «الأكراد» بإعلان «استقلال كردستان» وتشكيل دولتهم المستقلة، وأصبح الخبر، على مدى أيام، الحدث الثاني في التداول الإعلامي بعد أخبار «الجوكر» الذي تبينت قدرته على «الشغب» على امتداد مساحة شرق المتوسط، وضمناً في ما يسمى «المناطق المتنازع عليها» بين إقليم كردستان والمركز، مما استدعى «قلقاً على مصير الإقليم» ما دام العراق يتجه نحو التفكك حسب تصريحات القوميين الأكراد، فلم يكن أمام القيادات الكردية التقليدية خياراً سوى الهروب إلى الأمام باتجاه «الاستقلال»؟!
انبرى قسم من الساسة والمثقفين والكتاب الكرد إلى الدفاع عن فكرة الاستقلال، ووصلت النشوة القومية كردياً إلى ذروتها، تحت عنوان عريض: استعادة الحق المهدور، واستحضر الخطاب القومي الكردي، كل المظلومية التاريخية التي لحقت بالكرد ليبررهذه الخطوة.. جاحدٌ أو جاهل من ينكر الظلم الذي لحق بالكرد منذ «سايكس بيكو» وحتى الآن، منذ أن رسم «المهندس الغربي» خرائطه التي تحمل جينات التفجير كلما استطاع الرأسمال إليه سبيلاً، وبعد أن تموضعت البرجوازيات الحاكمة في موقع الوكيل لإدراة الأزمات، لا حلها، عجزاً أو تواطؤأ، ومنذ أن ارتكبت القيادات الكردية الخطأ تلو الخطأ عبر التاريخ.. وفي المقابل لايمكن لأي حق، حتى لو كان حقاً إلهياً أن يغطي على المنطق الأعرج، ولا تنفع المرافعات السيئة في المحكمة مهما كانت القضية عادلة، ما تمتلكه زعامة الإقليم من مقومات الدولة في «غابة الذئاب» من جهة دور الجغرافيا السياسية هو مجرد أنبوب نفط يمر تحت أقدام الجندرمة التركية. هل يقدم لنا التاريخ نموذج دولة يتحكم بمصيرها أنبوب نفط يمر من دولة تتحكم برقاب 20 مليوناً من أبناء جلدة هذه الدولة الوليدة؟؟! زعامات الإقليم تتحدث عن «تفهم» قوى دولية لـ«الاستقلال» وهو أمر ربما يكون قد حصل، ولكن ما ثمنه؟ وكم مرة تفهمت القوى الغربية «الحق الكردي»؟؟ ومع كل تفهم كان الخذلان هو النتيجة، هل نستعرض وقائع التاريخ؟ ألم تتفهم الولايات المتحدة «عودة الفرع إلى الأصل» عندما أقدم العراق على استباحة الكويت؟
تنقل وسائل الإعلام في اليوم التالي رفض تركي شديد لأي مساس بوحدة العراق بعد كلام معسول سابق(!!)، وتأكيد أمريكي على ضرورة الحفاظ على الوحدة الوطنية العراقية؟؟! ليست المشكلة في النفاق الأمريكي بقدر ما تكمن في سذاجة من يصدق مثل هذه الكذبة الملغومة. والسؤال الأهم هو لماذا هذا التوريط؟ ببساطة، الولايات المتحدة تحاول منذ «حربها على الإرهاب» توريط الكل، وإنهاك الكل بحيث يبقي الكل بحاجة إليها.
خطاب قومي آخر
الخطاب القومي العربي في قسم منه تعاطى مع تطورات الشأن العراقي بنفس المنطق البائس الذي تعامل به قسم من القوميين الأكراد، فقدم هؤلاء الكرد على أنهم وحدهم المسؤولون عن كل ما لحق بالعراق «العربي» ولاسيما بعد أن أتت الهدية من «نتنياهو» الذي عبّر عن «دعمه» للمحاولة الكردية، الأمر الذي استحضر «النخوة العربية» لدى بائعي فلسطين..! وبالتوازي مع ذلك كان القطيع القومي «الليبرالي» المطعّم بالطائفية– لاحظوا هذه الخلطة العجيبة- وتحديداً ذلك الذي يرعى في مرابع البترودولار، يتحدث عن «مؤامرة إيرانية» ومسؤوليتها في تقسيم العراق..
خلاصة الكلام في الخطاب الإعلامي المتعلق بتطورات المشهد العراقي: (الأكراد) يتهمون العرب– (العرب) يتهمون (الأكراد)، (السنة) يحمّلون المسؤولية لإيران (الشيعية)، الشيعة يتهمون التكفيريين (السنّة) وهكذا، فالكل ضد الكل، وما على كل طرف سوى أن يحمل السلاح لحماية نفسه.. في أسوأ محاكمة تاريخية تؤسس لـ «داحس والغبراء» تدور بأسلحة وأدوات عصر الثورة العلمية التكنولوجية، هل هناك تجلٍ أوضح للفوضى الخلاقة أكثر من ذلك ؟؟؟
هناك حل آخر
لاشك أن العالم، ومنه المنطقة، مقبل على تغييرات تاريخية كبرى، تغييرات تطال الاقتصاد والثقافة والبنى السياسية الحاكمة، وصولاً إلى الخرائط والحدود. لاشك في ذلك بعد أن استنفذت البنية السابقة- بنية سايكس بيكو- ولكن السؤال بأي اتجاه سيكون التغيير؟
التغيير الحقيقي هو ذاك التغيير الذي يعبر عن اتجاه التطور الموضوعي التاريخي، أي ذاك الذي ينطلق من حاجات ومصالح كل شعوب المنطقة، أي ذاك الذي يقطع مع التبعية للمركز الرأسمالي والإقصاء والتمييز القومي والديني والطائفي، والذي يؤسس للاعتراف المتبادل بالحقوق والواجبات، فلكل حصته في المآسي والويلات والكوارث التي شهدتها المنطقة على مدى التاريخ، وبالتالي فإن التغيير يجب يكون بذلك الاتجاه الذي يعبر عن وحدة مصالح كل شعوب وقوميات المنطقة، ووحدة نضالها للولوج إلى فضاءات الحرية والديمقراطية والتقدم الاجتماعي.