(التهميش).. كيف يصنّع العنف..؟!
عندما تمر بقربهم تحس بنظراتهم الصامتة والمتوثبة في آن تستعرضك وتتفحصك، وإذا اقتربت أكثر تحس بجو مشحون بالتوتر الصامت الذي يثير القلق في نفسك، توتر من تراكمت احباطاته وأزماته بسبب تهميشه وكأنك إزاء قنبلة موقوتة تكفي حادثة واحدة مقصودة أو عارضة حتى تسبب الانفجار .. إنهم حالة من " العنف الموقوت " الجاهز للانفجار في أي لحظة، وحين ينفجر هذا العنف قد يتخذ طابعاً من الحدة والشدة والاتساع يفاجأ بها أكثر الناس يقظة وتنبهاً، ولكنه عنف قد صنع وهيئ له منذ زمن بفعل التهميش.
إنهم الشريحة الكبرى من الشباب العامل أو شبه العامل ، والذين يمثلون نسبة كبيرة من فئة الشباب ، وتتميز هذه الشريحة بأنها لم تنل قسطاً كافياً من التعليم والاهتمام الحكومي ويعود ذلك لمجموعتين من العوامل:
أ ـ عوامل خارجية: تتمثل بالتبعية السياسية والاقتصادية والثقافية والتي عملت على تكريسها أنظمة حاكمة تماهت مع المشروع الامبريالي وخاصة في منطقة " قوس التوتر".. هذا المشروع الذي زرع الكيان الصهيوني في رحم المنطقة وأصبح يهدد الأرض والإنسان بالتآكل والفناء.
ب ـ عوامل داخلية وذاتية: شجعت على ترسيخ هيمنة قوى الإعاقة والتخلف، وعلى الخضوع الإرادي أو غير الإرادي ، الواعي أو غير الواعي، وتمثلت هذه العوامل في انشغال الأنظمة الحاكمة بتثبيت دعائم سلطتها على حساب تغييب مشاريع التنمية الاقتصادية والمجتمعية والبحوث العلمية والتربوية التي تعنى بهموم الشباب وتطلعاتهم، ومما فاقم من حدة الأزمة تطبيق سياسات السوق الاجتماعي التي ساهمت في زيادة حدة التفاوت الطبقي وتراجع الإنتاج الحقيقي وانكشاف الاقتصاد الوطني أمام الخارج، كذلك أفرغت الأرياف تدريجياً من المزارعين الذين اتجهوا نحو المدن الكبرى التي اتسعت بشكل سرطاني مخيف التهم آمال وطموحات فئة الشباب وحولتهم إلى خلايا مريضة ومهمشة بفعل عجز الأجهزة الحكومية المختصة عن مواكبة هذا التوسع، وتجلى ذلك العجز في الفشل الذريع بتأمين الخدمات الأولية كالسكن والنظافة والطبابة والنقل وتفشي البطالة.
الإشكالية
إن النظم التسلطية في دول الأطراف وبهدف تعميق سيطرتها تصوغ ضمناً شعارين متوازيين تعمل على تأكيدهما في الذاكرة الجمعية للمحكومين.
الأول: أنت تخضع إذاً أنت موجود.
الثاني: ادخل في النظام السياسي السائد والمفروض تعش هانئاً.
وبتثبيت هذه المتلازمة المرضية عبر مختلف أشكال القهر تنجح هذه النظم في تحقيق سيطرتها على الأفراد من خلال الحاجة وعن طريق تعميم البؤس الإنساني، وبالتالي يتحول الإنسان من موضوع للإعجاب والإعجاز وفق المقولة الشكسبيرية على لسان هاملت "ما أشبه الإنسان بالله" إلى موضوع للهندسة السلوكية والذي يتجلى عند "بافلوف" من خلال تجربته الشهيرة (المنعكس الشرطي)، والتي استفادت تلك الأنظمة من هذه التجربة وعممتها على المحكومين باعتبارهم قطيعاً سلبياً خاضعاً للتحليل العلمي.. ذلك التحليل الذي يخدم تلك الأنظمة التي تهدف إلى جعل الناس متماثلين ليس من ناحية التوزيع العادل للثروة والسلطة، بل من ناحية تحقيق السيطرة التامة عليهم ومنعهم من إنتاج أي تطور جديد يصب في بوتقة الرقي الإنساني والحضاري، وفرض نوع من الثقافة المبسترة التي تقولب الناس في أنماط مقننة وثابتة تتخذ طابعاً أزلياً لا يمكن التخلص منه. لذلك كيف يمكن الحديث عن مستقبل للشباب في ظل هذه الأنظمة وكل الأدلة والقرائن تؤكد أن هذه الأنظمة عملت على كف مبادرات الشباب واحتواء فعاليتهم من خلال سياسة الترغيب والترهيب ومحاولة ابتلاعهم بواسطة منظمات صورية تابعة لها.
إزاء هذا الواقع الضاغط كان على الشباب أن يختار واحدة من حالات عدة إما عقد صفقة الذل مع الشيطان وتقديم أوراق الاعتماد للانضواء في تنظيمات السلطة مرفقة بطقوس الخضوع والاستسلام وتقديم كرامتهم الإنسانية قرباناً على مذبح السلطة من أجل الحصول على هامش حقير من الامتيازات كالمنح الدراسية وأفضلية القبول في الجامعة والعمل، وإما الابتعاد عن كافة أشكال الحياة والخوض في غياهب المستنقعات وبالتالي الوقوع بين براثن التنظيمات المتطرفة والمتخلفة التي تستخدم وسائل عنفية، أو أحسن الأحوال الاشتغال في أعمال هامشية تسحق إنسانيتهم والانضمام إلى جيش العاطلين على العمل والانزواء في المقاهي مجترحين عوالم خيالية، مع غياب الضمانات التشريعية والقانونية والاجتماعية والصحية التي تحقق لهم أدنى شروط الكرامة الإنسانية.
النتائج (النموذج السوري في العنف والعنف المضاد)
إذا استثنينا الجيش باعتباره مؤسسة وطنية من حيث البنية والتكوين، فإننا نجد أن النموذج السوري في العنف والعنف المضاد يعتمد على قاعدة عريضة من المقاتلين المنتمين إلى شريحة الشباب المهمش وقود العنف وأغلبهم من الشباب العامل أو شبه العامل، الذين يدخلون الحرب وفي جعبتهم رصيد هائل من تراكم الاحباطات وتصاعد مشاعر العنف، حيث ينتمون إلى جماعات متحاربة بدون أي تأهيل عسكري أو عقائدي أو سياسي، ويزج بهم في أتون المعارك في ظل حالة عامة من التغاضي عن مسألة الانضباط مقابل ضمان الولاء وهذا يستدعي التساهل في المساءلة والمحاكة ليصل الأمر إلى حدود خطيرة من التسيب، وفي المقابل يحاط هؤلاء الشباب بهالة أسطورية من رموز الاعتزاز والقوة ويتحولون إلى سادة الساحة، والمتحكمين بزمام مصير البلاد والعباد ضمن حيزهم الجغرافي وهنا يحدث قلب دراماتيكي للأدوار حيث يمارس هؤلاء الشباب المهمشون كل تصرفات السيادة والإخضاع والمصادرة للآخر والتي كانوا يتعرضون لها ولزمن طويل، وهم بذلك يعتقدون أنهم يستعيدون اعتبارهم الذاتي ليصل الأمر إلى حد التغوّل في ظل غياب المعايير والضوابط، وتتصاعد وتيرة العنف لتأخذ طابعاً تدميرياً شهوانياً لا تستلزمها ضرورات هذه المعارك العبثية، فالتدمير هنا ينصب على العالم المحيط الذي لم يجدوا أنفسهم فيه، ومع انهيار القانون بشكل شبه تام في فترات العنف تتضاعف خطورة وضعية الشباب المهمش حيث يقدمون على مختلف أنواع الممارسات الجانحة (السرقات الفردية والمنظمة- إشباعات غير خلقية- الكحول والمخدرات- القتل العشوائي والتنكيل بالجثث) وقد تكون هذه الممارسات بتشجيع ممن حولهم مكافأة لهم على إنجازاتهم الخارقة في المعارك وتوثيقاً لروابط استقطابهم.
لكن مأساة هؤلاء الشباب المهمشين تتجلى عندما تدرك الأطراف المتحاربة ضرورة وقف العنف العبثي والاحتكام إلى الحل السياسي حيث تضع الحرب أوزارها ويفقد هؤلاء دورهم الذي أمدهم بالقوة والأهمية والاعتبار خلال المعارك حيث يعودون إلى مستنقع الهامشية والذي يصبح مضاعفاً فهم خارج نطاق الحرب لن يجدوا لهم دوراً ممكناً في الحياة المدنية فلا يجدون مخرجاً إلا بمزيد من الغرق في الهامشية وفي الإقبال على محظورات تنقلهم إلى عوالم أثيرية من النشوة والاستلاب، وهكذا يصبح هؤلاء الشباب بحاجة إلى عملية تأهيل كبيرة ومضنية في ظل الظروف المعاكسة المتمثلة في الضائقة الاقتصادية وإعادة الإعمار، وبذلك يقع هؤلاء من جديد في دوامة العنف المفروض الذي أدى إلى تهميشهم في الأصل.