أمريكا هي الطاعون
برزت مؤخراً تحليلات وآراء تذهب إلى أن واشنطن ستغيّر سياساتها في المنطقة تحت تهديد الإرهاب، وهنالك من ذهبت به التوقعات إلى حد الاعتقاد بأن واشنطن ربما «تضطر» إلى وضع يدها بيد النظام السوري لمحاربة «داعش»! وقد استند أصحاب هذه التحليلات إلى بضعة تصريحات أمريكية من خارج النسق المعتاد توحي بـ«توجهات أمريكية جديدة».
إنّ القراءة النظرية للأزمة الأمريكية وتطوراتها، والمعاينة الملموسة للسلوك الأمريكي، خلال العقدين الماضيين على الأقل، تظهران بوضوح سطوة التيار الفاشي الجديد ضمن المؤسسة الأمريكية. الأمر الذي يتجلى بالعمل المحموم لتوسيع «خارطة الحريق» بشكل مستمر ومطّرد، وبتصعيد الصراعات الثانوية الطائفية والقومية إلى حدها الأقصى، وبتأمين الدعم المستمر للأدوات الفاشية الجديدة المختلفة (من أمثلتها النازيون الجدد في أوكرانيا وأوروبا، وداعش في منطقتنا)، ما يقطع الطريق على أية أوهام حول «تغيير ما» في السياسة الأمريكية.
يبقى عند أصحاب هذه التوقعات مستند آخر يعتقدون بإمكانية الركون إليه، وهو التيار العقلاني. إذا كان صحيحاً أن صراعاً قاسياً يجري بين التيارين العقلاني والفاشي ضمن الإدارة الأمريكية حول طريقة الخروج من أزمتهم المشتركة، فإنّ ذلك يعني اختلافاً في الأساليب، لا اختلافاً في الغايات.
بكلامٍ آخر، فإن هنالك من يحاول الاستناد إلى وجود بعض تلويحات أمريكية ليروج حلاً للأزمة السورية عبر «صفقة» ما مع الأمريكيين، وهؤلاء هم تحديداً الفاسدون الكبار في جهاز الدولة والمجتمع، والذين يشكل الحل السياسي أكبر كوابيسهم، فهم يفضلون التنازل لواشنطن على تقديم تنازلات للشعب السوري، بمعنى التوقف عن نهبه وامتصاص دمه!
إذا قبلنا بالمنطق البراغماتي لدى البعض والقائل بأن «حلّ الأزمة عبر اجتثاث الإرهاب هو الأهم اليوم، وبعد ذلك تأتي مهمات إنهاء الكارثة الإنسانية ووقف العنف، ولاحقاً محاسبة الفاسدين وإصلاح بنية النظام السياسي والذهاب نحو سورية متجددة»، فهل يمكن حقاً حل الأزمة، واجتثاث الإرهاب فعلياً، من خلال «صفقات» مع واشنطن؟ وهل الذهاب بهذا الاتجاه هو موقف وطني؟
أمريكا هي الطاعون، ولا يمكن انتظار أي خير من العدو التاريخي للشعوب. لذلك فإنّ أية زاوية يجري النظر منها إلى الأزمة السورية ستوضح أمرين أساسيين، بجلاء:
أولاً: الأزمة لا تتعلق بمواقف سورية الوطنية فقط، وبالتالي بطبيعة علاقاتها الدولية. وإنّ لهذه الأزمة مركبها الداخلي المتعلق بالفساد والنهب والسياسات الليبرالية، وتغول الأجهزة الأمنية، وبالفقر والبطالة والتهميش، وبتدني مستوى الحريات السياسية. وعليه فإنّ «تصحيح» سياسات سورية الخارجية، أو «تعديلها» باتجاه أي تنازل لواشنطن تحت مسمى «التعاون في مكافحة الارهاب»، عدا عن كونه أمراً خيانياً وسيُسقط من المنطق الشعبي والوطني أي أحد يقبل عليه، فإنه لن يخرج سورية من أزمتها، بل سيعمقها.
ثانياً: إنّ خروجاً حقيقياً من الأزمة، وحيث أنه لا يتم بالتعاون مع العدو، فإنما يجري عبر صراع مستمر معه، على الأرضية التي تناسب مصالح وخيارات الشعب السوري العميقة، أرضية الحل السياسي، وليس أرضية الاستنزاف المستمر ضمن مقولات «الحسم» و«الإسقاط»، التي تتماهى مع المصالح الآنية والنهائية للعدو الأمريكي- الصهيوني.
إنّ تثبيت صورة هذا العدو، وتغيير أرضية الصراع ضده نحو الحل السياسي داخلياً، يشكلان قاعدة الانطلاق التي تلائم الشعب السوري ومصلحته الوطنية، وهما ضرورتان لا يمكن فصلهما، وبغيرهما لا يمكن إخراج البلاد من أزمتها حقاً.