تكتيكات جديدة لصراع طويل الأمد
ظهرت مؤخراً مؤشرات أولية عدة على طريقة أمريكية جديدة في إدارة عدوانها وتدخلها غير المباشر في سورية. فبعد مؤتمر جنيف-2 تمركز حلفاء واشنطن الإقليميون وائتلاف الدوحة على مقولة «تعديل ميزان القوى» في سورية.
ترافق ذلك بتغيير «قواعد العمل العسكري» باتجاه تكريس أسلوب التفجيرات والاغتيالات وقصف الهاون وتدمير البنى التحتية بأوسع ما يمكن باعتبار هذا النوع من الأعمال مركزاً أساسياً لثقل العمل المسلح، بعيداً عن السيناريو المستهلك في الانتشار الواسع و«تحرير» المدن والقرى والمطارات وما إلى هنالك.
سياسياً، جرت تغييرات موازية ضمن النسق ذاته. فجرى تعزيز موقع ائتلاف الدوحة وتحويل مكاتبه في الولايات المتحدة إلى «بعثات دبلوماسية»، والتهليل للجربا في زيارته المديدة لواشنطن وجدول أعمالها ولقاءاتها «الموسعة وعالية المستوى»، ليتضمن كل ذلك مساعيَ لرفع درجة الضبط الأمريكي المباشر للعمل الميداني العسكري ولتقليل القنوات التي تجري عبرها عمليات التمويل والإدارة، لتركيزها بأيد تحت الرقابة الأمريكية بأكبر قدر من الضبط على حساب وكلائهم الإقليميين، وفي مقدمتهم السعودية، وإعادة رسم الدور السعودي بما يسمح بتوجيه، الأمور نحو اقتتال واسع طويل الأمد إلى حد بعيد، بما يستنزف سورية كلياً، ويضغط على حلفائها أكثر فأكثر.
المعضلة بالنسبة للمعسكر الأمريكي الغربي تتمثل في مستويات عدة، أولها قناعتهم الضمنية أن لا حل عسكرياً للأزمة السورية بما يستدعي منطقياً حلها سياسياً، ولكن عند المستوى الثاني لا يوجد لدى هذا المعسكر «الضمانات» الكافية في ظل موازين القوى الدولية المتشكلة بأن يجري هذا الحل وفقاً لمصالحه وغاياته، فيصبح التصعيد العسكري والسياسي مع تغييب الحلول السياسية، هو خطة العمل الأمريكية الأساسية التي تحاول التكيّف من خلالها مع تغيرات ميزان القوى على الساحة الدولية، وبشكل خاص في ظل الخسائر المتتالية التي تتلقاها على الأرض الأوكرانية.
غير أن هذه التغييرات في ميزان القوى، إذ تؤشر بوضوح على التقدم الروسي، فإنها لا تعني إطلاقاً انعدام حيلة الطرف المتراجع. فواشنطن وفي إطار تراجعها تصر على عدم ترك سورية إلّا أرضاً محروقةً تسودها الفوضى، وتركز في هذا السياق على تفعيل الأشكال والإشارات الطائفية وملاحقة التسويات والهدنات حيثما جرت، في محاولة تخريبها لمنع انتشارها، بالتزامن مع التدمير الممنهج للوظائف الحيوية لجهاز الدولة السورية عبر تدمير البنى التحتية.
أمام هذه الوقائع، تنتصب مجدداً مهمات وعناوين وقف التدخل الخارجي، ووقف العنف، وإطلاق العملية السياسية، أي إعادة تفعيل الحل السياسي المتكامل الهادف أولاً لإيقاف الكارثة الانسانية العاصفة بسورية، باعتبارها مهمات من الطراز الوطني الرفيع. وإذا كانت البوصلة السورية الحقة تتحدد بمعاكسة واشنطن، وما تمثله، ومن يمثلها، فإن هذه البوصلة تتحدد عملياً بمعاكسة ما تريده واشنطن، لا ما تقوله، وهي الأشد كذباً ونفاقاً. وإنّ ما تريده اليوم يتكثف بمقولة استنزاف سورية وإحراقها بإدامة القتال والتخريب فيها إلى أقصى مدى ممكن بقطع الطريق على الحل السياسي.
وإن كان بين المتشددين من يحلم بتأجيل جنيف إلى ما لا نهاية، ومن يرى في إرجائه المؤقت فرصةً له ليحقق تقدماً ما، فإن حقيقة الأمر هي أن تعليق جنيف سيعطي فرصةً أخرى للفاشيين لتوسيع نفوذهم وتأثيرهم في طول البلاد وعرضها باتجاه مزيد من الفوضى، ولن يخدم هذا إلّا الغرب الاستعماري الذي يحرق سورية، ويريد لها أن تحترق حتى النهاية..
إنّ لجم واشنطن وفاشييها يرتكز في عمقه إلى الحلول السياسية وإلى قطع الطريق على الحرب باعتبارها المخرج التقليدي من الأزمات الرأسمالية، وعليه فإنّ القيام بكل ما من شأنه دفع البلاد باتجاه الحل السياسي، لا يزال المهمة الأولى الملقاة على عاتق الوطنيين السوريين، أينما كانت مواقعهم.