أطوار الأزمة السورية
يحاول العديد من الباحثين والمنظرين السياسيين إطلاق مواقفهم من انتخابات الرئاسة السورية، عبر عزل تلك الانتخابات عن السياق الموضوعي للأزمة في سورية، ومحاكمة فكرة الانتخابات كما لو كانت استحقاقاً مفصولاً عما سواه. غير أن سبيلاً صحيحاً لتقييمها لا بد له من وقوفٍ سريع على أبرز مراحل تلك الأزمة.
تتفق معظم النظريات العلمية والأكاديمية في ميدان العلوم السياسية على تقسيم الأزمات عموماً إلى ست مراحل وأطوار، تليها، في بعض الأحيان، مرحلةٌ سابعة تعبِّر عن مدى عمق الأزمة المطروحة. ويجدر الذكر هنا، أن هذا التقسيم لا يستند إلى الزمن كأساس في عملية الانتقال، بل إلى طبيعة كل مرحلة ومساهمتها في تطور هذه الأزمة أو تلك، وانتقالها إلى طورٍ أعلى من حيث التعقيد والتركيب الحاصل فيها.
إرهاصات الأزمات تحدِّد مدى شدتها
يصطلح على أول مرحلة من مراحل الأزمة اسم «بؤرة الأزمة/ جوهرهاEssence of the crisis»، وتعبِّر هذه المرحلة عن اختلالٍ في توازن النظام السياسي القائم. حيث تتعارض المصالح بين طبقتين، إحداهما أقلية سائدة بالمعنى الطبقي، والأخرى أكثرية مهمشة نتيجةً للسياسات الاقتصادية- الاجتماعية لتلك الأولى. وينضوي التراكم الكمي في هذه المرحلة على مدى قصور وضعف النظام السياسي في إيجاد حل للتناقض الآخذ بالغليان، نتيجة لتعارض المصلحتين (الأكثرية المنهوبة- الأقلية الناهبة). إذ تكون السمة العامة لتلك المرحلة هي «فوق» غير قادر على الاستمرار ضمن البنية والآليات المتبعة نفسها، و«تحت» غير راض عن الطريقة التي يُحكَم بها.
بدأت هذه المرحلة في سورية، عقب الاتجاه نحو تعميق السياسات الاقتصادية الليبرالية سيئة الصيت، السياسات التي ساهمت في زيادة مركزة الثروة بيد قلة قليلة، وبالتالي زيادة نسبة الفقراء والفقراء المدقعين في البلاد. كما زاد المستوى المتدني للحريات السياسية من تعقيد المرحلة الأولى من الأزمة.
إذا كان قد جرى في المرحلة الأولى تشكُّل الأزمة في التربة التي أمنتها أزمة النظام السياسي، ففي المرحلة الثانية، المسماة بمرحلة «الوضع المناسب Convenient Situation»، يتكوَّن المناخ الملائم لنمو الأزمة في تربتها الأولى، ويتشكَّل هذا المناخ عبر توازي قضيتين، أولهما استمرار حالة لامبالاة النظام السياسي إزاء أزمته، وثانيهما توفر إرادة خارجية ساعية لإيجاد الثغرات المناسبة لتمرير مخططاتها.
أما المرحلة الثالثة، فتتجسَّد بـ «إهمال الإنذار المبكر Let it ring!»، وعند هذه المرحلة تزداد أزمة النظام السياسي، ويزداد معها إهماله لإشارات الإنذار، التي غالباً ما تطلقها المجموعات السياسية الضاغطة في المجتمع، في حال وجودها، وفي حال تمتعت ببصيرة أقوى من تلك التي يتمتع بها النظام السياسي.
هنا يمكن لنا أن نستذكر، على سبيل المثال، البلاغ الصادر عن اجتماع مجلس «اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين- حزب الإرادة الشعبية حالياً» في دمشق بتاريخ 25/2/2011، والذي أعلن أنه «لم تعد قضية عودة الجماهير للشارع محل نقاش»، وسلَّط الضوء على جملة من الإجراءات المطلوبة على الصعيد الاقتصادي- الاجتماعي والسياسي والوطني العام، لتجنيب البلاد ما لا تحمد عقباه.
الانفجار.. نتيجة لتراكم الأخطاء
يطلق على المرحلة الرابعة اسم «الحدث المرتقب»، وهو التفصيل الثانوي الذي يجري تعويمه وترويجه على أنه السبب الوحيد لدخول الجماهير في درجة من النشاط السياسي العالي. ونستذكر هنا أحداث محافظة درعا في بداية عام 2011، والتي جهدت بعض وسائل الإعلام في تصويرها كسبب وحيد للأزمة السورية، وليست إحدى حلقاتها ومراحلها.
وتعتبر المرحلة الخامسة هي المحطة التي غالباً ما يجري فيها التدخل لمنع استثمار النقاط الأربع الأولى بما يفضي إلى مسارٍ ثوري شعبي، هذه المرحلة تسمى «مظاهر التوتر والقلق». وخلالها جرى في سورية محاولات حثيثة لإقحام شعارات غير جامعة، كشعار «إسقاط النظام» الذي أفصح عن محتواه عبر تجربة المحيط، حيث كان بوابة للحفاظ على البنية الاقتصادية- الاجتماعية والسياسية ذاتها، مع عمليات تجميل ترقيعية تطال الشكل الخارجي. وفيها اعتمد الحل الأمني على حساب السياسي المطلوب، وبدأ الترويج لحمل السلاح، كوسيلة وحيدة تؤمِّن «إسقاط النظام».
وعليه، مُهِّدت الطريق للمرحلة السادسة، «انفجار الأزمة Boiling Completing»، حيث يتفشى السلاح، وتدخل البلاد طور العنف الدامي والأعمى، وتستهدف بنيتها التحتية ويُهدَّد وجودها ككيان موحَّد. وفي الحالة السورية، فُتح الباب أمام التدخل الخارجي غير المباشر، بعد استعصاء المباشر، بفضل الموقفين الروسي والصيني، واتضاح التغيير في الموازين الدولية، لغير مصلحة الإمبريالية الأمريكية.
خلال مرحلة انفجار الأزمة، والتي تعد الأطول من حيث الوقت، تجري الأحداث بأحد مسارين، إما اتجاه أطرافها نحو التهدئة والبحث عن مخارج آمنة من الأزمة، عبر الحوار وتبادل التنازلات، بما يفضي إلى الحفاظ على ثقل الأزمة في الداخل، وإما أن تُراكِم أطراف النزاع الداخلي أخطاءها، وما يترافق مع ذلك من احتدام الصراع وإزهاق الأرواح وتدمير الممتلكات وتدفق اللاجئين بمئات الألوف أو الملايين، وبالتالي انتقال الأزمة إلى طورها السابع، «مرحلة التدويل Internationalization»، وهو ما جرى في الحالة السورية.
كما كل المراحل السابقة، هناك طريقتان للتعاطي مع التدويل، فإما إطالة أمده، عبر العمل من أجل «تجاوزه»، وهنا يمكن الإشارة إلى الدعوات التي يطلقها البعض للعمل على تجاهل التدويل الحاصل في الأزمة السورية، واللجوء عوضاً عن ذلك إلى فتح الباب أمام عملية سياسية داخلية تتجاوز التدويل.
دخول التدويل ليس كالخروج منه!
إن إعطاء الأولوية للداخل هي عملية مطلوبة دائماً، غير أن ما يتجاهله الكثيرون هو أن تجاوز التدويل أمر غير قابل للتحقق، ولم ينجح في كل الحوادث التاريخية التي شهدت تدويلاً. وما لا يدركه الكثيرون أيضاً، أن التغير الجاري في الميزان الدولي أتاح فرصة أمام السوريين لا يكررها التاريخ كثيراً، وهي فرصة إعادة مركز ثقل الأزمة السورية إلى الداخل، عبر المشاركة في العملية السياسية «جنيف2» وما يتبعه، والضغط على مقرراته، بما يفضي إلى مخرجات وطنية تسمح بإطلاق الحل السياسي في الداخل.
انتهاز الفرصة النادرة التي يؤمنها تغير الميزان الدولي يتطلب الجدية التامة في التعامل مع الشق الدولي من الأزمة السورية، بما يعني ذلك من عدم استباق نتائج المؤتمرات الدولية، وإعطاء الأولوية لتسريع وتيرتها، وبالتالي تسريع عملية الانتقال إلى الحل السياسي الداخلي.
وفيما يخص الانتخابات الرئاسية السورية، فإنها يجب أن تكون أحد مخرجات العملية السياسية، خصوصاً وأن الدستور السوري الجديد لم يضع عائقاً أمام تأجيلها، حين تحدث عن التمديد في مادته السابعة والثمانين. حيث أن الحالة التي ستجري فيها عملية الانتخاب، في ظل عدم شمولية العملية على كل الأراضي السورية نتيجةً للأعداد الكبيرة للنازحين واللاجئين، وخروج مناطق كثيرة من سيطرة الدولة السورية، يمكن أن تؤدي لزيادة الشرخ والانقسام، وبالتالي إضاعة الوقت أمام حل الأزمة السورية، وإبقائها لوقتٍ أطول في طور التدويل.
في المراحل الست الأولى للأزمة السورية، وخلال سعي طرفي النزاع إلى تدويلها (سواءً أدركا ذلك أم لا)، كان هناك، في الضفة الأخرى، معارضة وطنية اختارت أن تخوض معركة الحفاظ على مركز ثقل الأزمة السورية في الداخل. وقبلت، على هذا الأساس، أن تخوض استحقاقاتٍ سياسية كانت «إشكالية» في حينه، انطلاقاً من وطنيتها وحرصها على وقف نزيف الدم السوري. البعض لم يفهم ذلك، واعتبره دخولاً في عباءة النظام. واليوم، بعد التدويل، ما زالت تلك المعارضة الوطنية تخوض معركتها لإعادة الوزن إلى الداخل، ليس عبر إضاعة الوقت في محاولات «تجاوز» التدويل، بل عبر الضغط باتجاه إشراك المعارضة الوطنية في «جنيف2» وما يتبعه، وتالياً الضغط لإيجاد مخارج وطنية من التدويل، تعيد الكلمة للسوريين، وتفتح الباب أمام مرحلةٍ ثامنة، مرحلة الحل السياسي.