الحرية ضرورة للسوريين..
كان الهتاف للحرية والدعوة لها سمة ميزت الحركة الشعبية في سورية على الرغم من ورودها ضمن الشعارات في التحركات الشعبية الأخرى، لكنها في سورية عكست الاحتقان غير المصاغ، بسبب الغياب الطويل للحريات السياسية، وبالتالي للعمل والأحزاب السياسية. فالجماهير التي آن الأوان لتهدر حناجرها بصيحات التوق إلى التحرر من البؤس بكل أشكاله، والتي دقت ساعة أمانيها المؤجلة وجدت بالحرية ضالتها: كلمة تختزل ما فاضت به الصدور من المعاناة، وما فاض فيه العقل من أحلام..
يعود مفهوم الحرية إلى ما قبل التاريخ السياسي للمجتمعات، إلى الميل التاريخي لدى الإنسان للانعتاق من الضرورات بمختلف أشكالها، سواء تلك التي تعود إلى قوى الطبيعة العمياء، أو تلك التي فرضتها الجماعات البشرية على بعضها بعد انقسامها إلى طبقات. وتطورت أدوات الإنسان تاريخياً خلال صراعه مع تلك الضرورات بما كان ينقله على الدوام من موقع الخاضع/العبد لتلك الضرورات، إلى موقع المتحكم/السيد بالضرورة، وذلك بعدما يعي الطبيعة الداخلية للضرورات التي تحكمه، فكان تحرر الإنسان من الضرورة يتم بوعيها والتحكم بها، وليس بالاستقلال الموهوم عن القوانين الموضوعية للضرورات المختلفة، بل بإدراكها وامتلاك أدواتها بالملموس، وصولاً إلى السيطرة والتحكم بها..
وعندما تفرض جماعات من البشر قيوداً على جماعات أخرى، وتجعلها أسيرة ضرورة محددة، فإنها بذلك تصنع حرية لها، مناقضة لتلك الضرورة.. ولكن السؤال الأهم هو: كيف تنقسم المجتمعات إلى أطراف تفرض بعضها ضرورات على بعضها الآخر؟؟
عندما تخرج الجماهير مطالبة بالحرية في واقعنا السياسي الحالي، فهناك ضرورات محددة تدفعهم إلى ذلك، ضرورات ملموسة ومتنوعة ومترابطة في آن واحد يفترض أن تصنع واقعاً تنشده الأكثرية بالبلاد، تلك الضرورات فرضت من جانب قلة عليهم، فما مضمون الحرية التي ينشدها السوريون؟
على الرغم من الإصرار الضمني لبعض الأطراف في الحدث السياسي السوري من مختلف المواقع، سواء المشككين أو المؤلهين لشعار الحرية، على إخفاء المطالب العملية والملموسة للجماهير ومباغتتها بمختلف أشكال الشحن الإعلامي والمذهبي التحريضي، لتأخير صياغة تلك المطالب، لم تستطع تلك الأطراف أن تصمد من دون الإعلان عن جانب من برامجها في محاولة اجتذاب الجماهير إليها، لنجد أن الحرية في مفهوم البعض قد انحسرت في حدود الحقوق الديمقراطية، واتفق جميع المتصارعين على إبقاء الصراع في القضايا الأساسية الأخرى، والتي تمس الجماهير بشكل مباشر، تتم في الخفاء.. فلماذا لم يجرؤ البعض على إعلان البرامج الاقتصادية- الاجتماعية والوطنية حتى الآن؟؟ اليوم، يذهب البعض إلى تبرير ذلك بأنه ليس الآن وقت مناقشة تلك المسائل؟؟ فإذا لم يكن هذا هو الوقت المناسب، فمتى؟ وكيف سيعرف السوريون من سيؤيدون ومن سيعارضون؟؟
إن الحرية ليست هي الديمقراطية، لأن الديمقراطية هي أداة لممارسة طرف من الأطراف لحريته عبر فرض الضرورات على الأطراف الأخرى. أي ليس هناك من ديمقراطية خالصة مجردة عن المضمون الاقتصادي- الاجتماعي، بل إن الديمقراطية هي نتاج ممارسة اقتصادية اجتماعية محددة، وبالتالي هي محددة بدورها ومرتبطة بهذه الطبقة أو تلك..
ذلك التغييب المتعمد للبرنامج الفعلي للأطراف المختلفة كان مطلوباً منه دفع الحدث إلى أقصاه، من زاوية مصالح تلك الأطراف، لاستخدام كلمة حرية كمعادل للشعارات الفعلية لتلك الأطراف، كأن تكون حرية الشعب السوري هي إما إسقاط للنظام أو طريق واحد للإصلاح يتم عبر النظام أو غطاء لإراقة الدماء طائفياً...
حرية الشعب السوري هي في سعيه لإزاحة الضرورات عن كاهله، فمثلما يوضع اليوم ملف الحريات السياسية على الطاولة، ينبغي أن يوضع إلى جانبه الملف الاقتصادي –الاجتماعي، وتتم محاسبة الفاسدين والناهبين الكبار، في جهاز الدولة وخارجه، وحرية الشعب السوري لن تكون كاملة إلا بتحرير الجولان، وهذا هو الوقت المناسب لذلك أكثر من أي وقت آخر، وليس كما يتوهم البعض، لأن الجولان ليس ملكاً لأحد غير الشعب السوري، فتحريره ليس مخرجاً لأحد من أزمته، ولن يكون انتصاراً مجانياً لأحد، بل سيكشف عيوب المزاودين والمراوغين من كل حدب وصوب.
ليست حرية السوريين رهناً بشعارات الأطراف المتسترة بالحرية والمختبئة خلف جبروت هذه الكلمة ووهجها، بل هي لقمة السوريين الكريمة وكلمتهم الحرة ووطنهم المنيع