المازوت.. قرار الضرورة بغياب الاستراتيجية
تخلق الفوارق السعرية للسلع على أطراف الحدود فرصة مادية مغرية يمكن الاستفادة منها عبر حلقات التهريب الداخلية والخارجية الرسمية وغير الرسمية، لاستغلالها والدخول منها لتحقيق أرباح مالية هائلة عبر فجوة لا يمكن ردمها بكل الإجراءات الإدارية والأمنية والقانونية، خاصة وأن حجم الإغراء المالي المبتعد أمتار قليلة كبيرٍ ولا يمكن مقاومته من جانب كثير من الناس وبجهد غير معقد خبره وتمرس معه أصحاب الشأن والاهتمام..
ومنذ بضع سنوات عاشت سورية فترة نزيف حقيقي لاقتصادها بسبب الفرق الشاسع لأسعار الوقود بينها وبين دول الجوار، ووصلت خسائرها السنوية إلى 450 مليار ليرة سورية ناتجة عن تهريب 1.5 مليار لتر من المازوت سنوياً، لفارق في سعر اللتر الواحد تراوح وقتها بين 20- 32 ليرة، حيث كان سعر اللتر في سورية حوالي 8 ليرات، وفي دول الجوار: (لبنان، تركيا، الأردن) تراوح بين 28- 40 ليرة متغيراً وفق بورصة النفط العالمية... وهو ما أجبر الحكومة بالنهاية وتحت ضغط الخسائر اليومية الهائلة، إلى رفع سعر المازوت إلى 20 ليرة سورية لتخفيف الضغط عن الخزينة، وترتب على ذلك تراجع في استنزاف الخزينة ووفر على خزينة الدولة أعباء إضافية، وبالمقابل فإن الإجراء حمّل قطاعات الإنتاج الفعلي والمواطن أعباء مادية واقتصادية واجتماعية كبيرة:
- رفعت تكلفة وحدة الإنتاج مما ساهم بشكل فعلي في إغلاق كثير من المنشآت الصناعية والحرفية.
- مغادرة كثير من الأسر المعتمدة على الزراعة المروية في رزقها أماكن عملها وتغيير مهنتها التاريخية.
- تحمّل دخل المواطن أعباء مالية هائلة بطريقة مباشرة عند شرائه المازوت أو بطريقة غير مباشرة عند شرائه السلع المرتبط إنتاجها بالمازوت...
تناقضان وقعت تحت رحمتهما السياسات الاقتصادية في الفترة الماضية الاستنزاف المالي المباشر أو تدمير بنية قطاعات إنتاجية هامة وفاعلة على مستوى الاقتصاد الوطني...
ونعيد اليوم الوقوف بحيرة أمام الخيارين السابقين في ظل غياب عملي وديناميكي لاستراتيجية طاقية وطنية عجزت حتى الآن عن تجنيب البلاد أحد هذين المطبين المكلفين اقتصادياً ووطنياً.. وعجزت بالتالي في التعامل مع تحولات أسعار الطاقة المتوقعة عند كل أزمة مالية أو سياسية إقليمية أو دولية... وعادت أزمة النزيف المالي تحت ضغط الشارع ومتطلباته الملحة، فأصبح قرار تخفيض سعر المازوت سارياً من الساعة الثانية عشرة ليوم 25/5/2011، وهو ما سيدخلنا مرة أخرى بدوامة الخسائر الاقتصادية لصالح الجوار وحلقاته، أي أننا على أبواب خسائر سنوية كبيرة قيمتها تفوق خسائر عام 2008 وسابقاتها (7.5 مليار دولار/سنة)، وكل ذلك عند فارق سعري وسطي بين أطراف الحدود بلغ 21 ليرة سورية.. أما الآن، وعند فارق سعري وسطي قدره 45.33 ليرة سورية (موزعاً: لبنان 48، الأردن 37، تركيا 95)، فمن المتوقع نظرياً أن تتضاعف كمية التهريب السنوي، وبالتالي تتضاعف الأعباء المالية على الخزينة، خاصة وأن معدلات التهريب انتقلت من 7.5% في الشهر الأول والثاني العام الحال إلى 17.5% في بداية شهر الحالي، وكل ذلك قبل تخفيض سعر المازوت الحالي، فمع تخفيضه من المتوقع أن نتجاوز نسبة الـ17.5% ... وبالتالي يمكن أن تصل أعباء عام 2008 إلى الضعف مع بداية تطبيق قرار تخفيض المازوت والوصول إلى 15 مليار دولار أي ثلث ناتج سوريةا المحلي الإجمالي!.
هي نتيجة حتمية لسياسات اقتصادية للسنوات الست الماضية مترافقة مع غياب لاستراتيجية طاقية عملية على الأرض، والمرتبطة من وجهة نظر المواطن العادي بهمومه اليومية ومتطلباته، والتي يحمل مسؤوليتها لأسعار المازوت ومن كان وراء رفع أسعاره، دون النظر إلى الأثر الكلي لحجم الخسائر وما يترتب عليها اقتصادياً واجتماعياً، وهو أمر طبيعي لأن أبعاداً كهذه ليست من مسؤوليته، بل هي من مسؤولية الدولة والحكومة التي تخطط وتدير مواردها لخدمة الوطن والمواطن على ألا تمس مسلمات عيشه المرتبطة بشكل وثيق بتفاصيل حياته اليومية...
إن تحسين الوضع الاقتصادي للسكان يتم من خلال تسريع النمو الاقتصادي وتكثيفه، وليس عبر زيادة أعباء الخزينة، التي ستؤثر بشكلها الحالي على هذا النمو الذي سيتراجع بدوره ويؤدي إلى استهلاك ثروتنا المادية المتراكمة أو سوء توزيعها، والتي كانت في السنوات السابقة معدلات نمو ذات طبيعة نخبوية في أغلبها لمصلحة النخبة المالية والاقتصادية، التي استفادت من الثغرات السياسية والاقتصادية لتكسب لصالحها معظم النمو المفترض والمعلن من جانب الحكومة السابقة.
دفع هذا النمو المالي النخبوي وتراكمه في أيدي النخبة المالية خلال السنوات الست الماضية وما قبلها، باتجاه تبعات اجتماعية تجسدت بمشاعر شعبية غاضبة دفعت لقرار آني (تخفيض سعر لتر المازوت إلى 15 ل.س) هو ضرورة اجتماعية ومطلب شعبي، لكن بالمقابل هو عبء اقتصادي هائل في غياب استراتيجية وطنية للطاقة واستهلاكها نظراً لحصتها الهائلة من استنزاف الاقتصاد الوطني.
وتصبح مسألة ملحة إيجاد مخرج لهذين المأزقين المتمثلين بالاستنزاف المالي المباشر(المقدر هنا بـ15 مليار دولار/سنوياً)، أو تدمير بنية قطاعات إنتاجية هامة وفاعلة على مستوى الاقتصاد الوطني نتيجة ارتفاع كلفة الإنتاج.. والحل يكون مشابها لاستراتيجية القمح التي أوجدت حلاً للأمن الغذائي في سورية في الثمانينيات من القرن الماضي... متمثلة في بعض الحلول الممكنة:
- تأمين الطاقة الكهربائية للآبار الارتوازية تقلل من حاجة الزراعة إلى المازوت للحد الأدنى، وهو ما طرح في الجلسة الأولى للحكومة الجديدة.
- الاعتماد على الطاقات البديلة باستراتيجية وطنية متكاملة كطاقة الرياح والطاقة الشمسية، يمكن أن يقلل أيضاً من حصة الاستنزاف، ويخفف الضغط على طلب المازوت.
- إن دراسة متكاملة لهيكلية استهلاك الطاقة في القطر وحصة كل قطاع منها، يمكن أن يسهل الحلول الطاقية على المستوى الجزئي.
وأخيراً، في حال صعوبة تطبيق أو تنفيذ حلول كهذه بوقت قياسي يبقى الحل الأقل ضرراً توزيع الفارق بين سعر الدعم وسعر المازوت في السوق العالمية على الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية والفردية عن طريق الدفع نقداً من خزينة الدولة، وإبقاء سعر المازوت بسعر السوق المجاورة، أو قريباً منها، كحل سريع ينقذ خزينة الدولة من هدر لجيوب قلة من داخل البلد وخارجه، وينهي عملياً ظاهرة التهريب المنهكة وربما المميتة لكثير من قطاعات إنتاجنا الحيوية..
هوامش:
جريدة الاخبار اللبنانية 2/4/2008.
جريدة الوطن السورية 2/5/2011.
جريدة أنباء موسكو عدد 8 ايار 2011.