الانفتاح «الليبرالي».. وخدعة المشاريع الصغيرة!

الانفتاح «الليبرالي».. وخدعة المشاريع الصغيرة!

إعادة اختراع الدولاب، هي من اختصاص أغلب منظري السياسات الحكومية المتفائلة في دول العالم الثالث...

إي إعادة بناء الرأسمالية والتجارب الأوروبية الاقتصادية في أكثر الأحلام تفاؤلاً، أو التجارب الأقصى أسيوية في الأحلام المتواضعة... وقد رأينا منها الكثير في السنوات الأخيرة لقادة الفكر الاقتصادي في سورية، فمن الفتوى بإمكانية ريادة قطاع واحد للاقتصاد، إلى اعتبار مصادر الأموال غير ضرورية، إلى الدعوة لتحمل العلاج بالصدمة، وأن النعيم سيعود على الجميع في النهاية السعيدة للتجربة «الفلانية»... ويتخيلون أسماءهم الرنانة على النماذج الفريدة التي تعيد اختراع الدولاب...

المشاريع الصغيرة الحلم الواعد...

بدأ منذ فترة غير بعيدة في المنابر الاقتصادية الملونة والمدنية في سورية، الترويج لمفهوم المشروعات الصغيرة، والقروض الصغيرة، ورجال الأعمال الشباب الصغار أيضاً، وانضمت إلى الجوقة المطبّلة شركات عالمية كبيرة تعمل في سورية كشركة «شل» النفطية وغيرها، أو ندوات من منتديات أعمال ماليزية مثلاً، وتبناها كثيرون من منظري الاقتصاد «الإسلامي». تبدو الفكرة مغرية ومنطقية وتحمل بعداً اجتماعياً، بإعطاء الفرصة للشباب بأخذ قروض بمبالغ لا تتجاوز المليون ليرة سورية بأعلى حد لها، لإقامة مشاريعهم الصغيرة وإعادة القروض بشكل تدريجي، إلا أننا نريد أن  نلقي الضوء على الخطأ المنهجي في هذه السياسة ووصولها إلى اعادة اختراع الدولاب من جديد..

- عند بدايات الرأسمالية في أوروبا كانت الورش الصغيرة أو ما كان يسمى بالمانيفاكتورات القائمة على الصناعات الحرفية تستقطب العمال، الفئة الاجتماعية الجديدة والمنحدرة من الفلاحين المجردين من أراضيهم، والذين كانوا مع معالم تكنولوجيا الثورة الصناعية الأداة الأساسية لتطور هذه المانيفكتورات إلى معامل كبيرة، ومن ثم اختصرت هذه المعامل وتركزت باحتكارات انتاجية وقطاعية كبيرة، وفي هذه المرحلة تم الانتقال من مرحلة الرأسمالية التنافسية القائمة على المشاريع الصغيرة، إلى مرحلة الرأسمالية الاحتكارية وهو ما يُترّخ له عالمياً في بدايات القرن العشرين...

لم تتم هذه العملية في كل العالم بشكل متطابق، إلا أنها تمت بشكل قريب إلى التطابق في الدول التي سارت منذ البداية بخطى متقاربة أي في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، أي أن قانونية ما تحكم هذه العملية وهو ما يسمى بتمركز رأس المال، والذي ينتج بشكل أساسي عن الإنتاجية الأعلى للمنشآت الكبيرة وقدرتها على استخدام التكنولوجيا المتطورة، والتحكم بالسعر في السوق، وهو ما يؤدي بشكل طبيعي إلى زوال المنافسين الصغار، ويحكم على المشروعات الصغيرة بالإفلاس، وتتم عملية اندماج رؤوس أموالها مع المنشآت الكبيرة التي تزداد منعة وقوة وتصبح عصية على المنافسة إلا من جانب رؤوس أموال ضخمة وموازية. وهو ما يفسر اقتصاد اليوم القائم على التحكم العالمي لشركات محدودة في كل قطاع اقتصادي.

أما نحن..

أما في دول العالم النامي وسورية ضمنها فمن غير الممكن إعادة الدورة السابقة من البداية لأن ما تم منذ أكثر من خمسمائة سنة، تم في معطيات أخرى. نحن اليوم في عالم الرأسمالية الاحتكارية بأوسع أشكالها، وعابث من يتكلم عن منافسة حرة وقوى السوق المنظمة تلقائياً، لدولنا احتكاراتها المحلية أيضاً من نوعها الخاص، وهي احتكارات بأغلبها تجارية أو سمسارية وفي بعض الحالات احتكارات صناعية محلية،غالباً تقوم هذه الاحتكارات على الارتباط بالمنظومة الاقتصادية العالمية وتقوم بدور الوسيط للشركات العالمية، أو قد تكون على شكل احتكارات قطاعية وخط من خطوط الإنتاج في الاحتكارات الاقتصادية الكبرى. من الممكن أن يكون للمشروعات الصغيرة في سورية  دورها في قطاعات لم يتم التحكم بها كلياً بعد، وتقدر على الاستمرار مؤقتاً حتى دخول رؤوس الأموال الكبيرة إلى المنافسة، إلا أنها لا يمكن أن تتبع كمنهجية وشعار أول في الاقتصاد السوري، وهي لا تنتج سوى الهدر والفشل، فالمشروعات الصغيرة التي كانت قائمة في سورية والمتمثلة بالحرف والورش قضت عليها تلقائياً سياسات التحرير ودخول البضائع الخارجية الأقل تكلفة والأكثر إنتاجية، والمشروعات الصغيرة الزراعية قضت عليها السياسات الزراعية الفاشلة وأسعار السوق المحتكرة تجارياً، حتى المشروعات الخدمية الصغيرة كوسائط النقل «السرافيس»، تقضي عليها اليوم سياسات دعم المستثمرين الكبار.

إن منطق التطور الاقتصادي يقتضي العمل على تطوير اقتصاديات الحجم الأكثر إنتاجية وفاعلية، أي أن ما يجري اليوم  عالمياً هو محاولات يائسة لحماية الاحتكارات وتخفيف حدّة نتائجها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، إلا أن تناقضها مع تطور النوع البشري وتسخيرها العلم والتكنولوجيا لخدمة الربح الأقصى، وتناقضها مع توسيع الفقر والبطالة وإنتاجها للكساد، ونتائجها السياسية بامتلاكها لأدوات السيطرة الكاملة السياسية القانونية الاجتماعية وحتى الإعلامية، كل هذا سيدفع إلى توسيع دائرة الرفض الملكية الخاصة للثروة الاجتماعية الكبرى وهو ما تمثله الاحتكارات.

من يسوق للمشروعات الصغيرة؟

 تسوق المنظمات الدولية للمشروعات الصغيرة وتسوق معها نظريات اقتصادية تم تجاوزها في دول العالم المتقدمة معتمدة على تخلفنا المعرفي وثقتنا العمياء، وتوافق محتكرينا، فتأتي المشروعات الصغيرة على أرضية ضرورة المنافسة الحرة القائمة على خروج الدولة من دورها الاقتصادي ومن تدخلها بالسعر أو بالدعم، وترك السوق لتولد حركتها الطبيعية، متغافلة عن دور الاحتكار ونتائجه.

أما هنا فتلتقي هذه المنهجية المضللة، مع أصحاب المصلحة في التضليل، أي من يخدمهم الابتعاد عن الحقائق العلمية التي تقول بأن رفع مستوى الاقتصاد الوطني وتحقيق الاستحقاقات المستعجلة، يتطلب استثمارات إنتاجية بالحجم الكبير قائمة على أساس منهجي مخطط تتبناه الدولة وجميع فئات المجتمع وتحميه وتكتسب ثماره، أما توجيه الأنظار نحو المشروعات الصغيرة وغيرها من العبارات الرنانة، فيخدم حجب الأنظار عن الاحتكارات السورية الكبرى بكل  أشكالها، وتغطية اجتماعية للدعم الكبير للاحتكارات الفردية الريعية.

يكفي عبثا بالاقتصاد الوطني، وبثروات البلاد وأقدارها، إنها الفرصة لإقامة الانقلاب الوطني الحقيقي على سياسات التجريب واللامنهجية التي تخدم استمرار التدهور والفساد.إنه الوقت المناسب لتجنيد الموارد كافة وإعادة أموالنا المنهوبة، وبناء المشروعات الكبرى وتمويلها، وإعادة الحياة والعمل الدؤوب على إنجاح المشروعات الموجودة، لنؤمن ضمانة ورافعة اقتصادية اجتماعية، إنه التوقيت الأمثل لفتح كل الجبهات الوطنية في تحرير الإنسان والوطن.