بين قوسين: الحلم.. والسبيل
ربطت قوى كثيرة ذات بنية وطبيعة انتهازية، استولت على حكم بلدانها وشعوبها في النصف الثاني من القرن العشرين، اسم الاشتراكية، أو التوجه الاشتراكي، بالفقر والفساد والقمع والاستبداد وعبادة الفرد وقوانين الطوارئ والزنازين المعتمة وانعدام الحريات، وتعطيل دور المؤسسات الدستورية والرقابية، وتغييب الأحزاب، والتخلف العلمي والتقني والاقتصادي...
حدث هذا في بلدان متعددة من العالم، وخاصة في بعض البلدان العربية التي ادعت تبنيها للتوجه الاشتراكي، حيث جرى فيها بالنتيجة، وبغض النظر عن الشعارات المرفوعة ونوايا بعض أركان الحكم فيها، تشويه تاريخي لجوهر الاشتراكية، وتحويلها واقعاً وفي أذهان الناس، من نظام اقتصادي - اجتماعي يقوم على الملكية الجماعية للثروة الطبيعية ولوسائل الإنتاج وتوزيعها بالتساوي بين أفراد الشعب دون تمييز من أي نوع، إلى نظام استئثار بالحكم والثروة والمزايا والمكاسب لفئة سياسية متسلطة معزولة، تتحالف ضمناً مع البرجوازية المحلية والعالمية، ولا تقدم للناس إلا ما تضطر لتقديمه قسرياً تحت ضغط الواقع والشعار لتثبيت حكمها وضمان استمراريته، وخصوصاً في مجالات الصحة والعمل والتعليم..
والمؤسف أن كل ذلك جرى برعاية ودعم مباشر أو غير مباشر من المعسكر الاشتراكي، الذي تحكّم به بعد أقل من عقد على الانتصار بالحرب العالمية الثانية، تيار ضعيف الصلة بالماركسية اللينينية بجوهرها وقوانينها وغاياتها، وإن ظل يزعم غير ذلك، تيار أنهك بلدانه وشعوبه، وقوّض دعائم نظامه وساقه في النهاية لحتفه، وكانت ذرائع دعمه لهذه الأنظمة المشوهة تتراوح بين متطلبات الحرب الباردة تارة، وضرورة السير نحو الاشتراكية خطوة خطوة تارة أخرى!!
وبعد انهيار التجربة الاشتراكية في أوروبا أواخر القرن العشرين بسبب استنفادها أغلب عوامل بقائها، سارعت معظم الأنظمة السالفة الذكر، إلى خلع ثوب الاشتراكية المهترئ الذي لم يكن قد تبقى منه عند الانهيار إلا الاسم وبعض المعالم، ليظهر تحته الثوب الحقيقي المرتدى منذ زمن وهو الرأسمالية، فأسبغت عليه لون النيوليبرالية، وأطلت أعناق أموال رجالاتها المنهوبة من الخزائن العامة، من تحته ومن جيوبه، وراحت ماكيناتها الإعلامية القديمة والمستحدثة تجاهر بضرورة مواكبة التغيرات العالمية، ممجدة الرأسمالية بوصفها النظام الأبقى والأقوى، فجُرّدت الجماهير من معظم المكاسب القليلة التي كانت قدحصلت عليها في العقود الفائتة بحجة الانفتاح والتحديث وتجاوز «أوهام» الماضي، قبل أن تقع هذه الأنظمة سريعاً، وبعد سنوات قليلة على إجرائها «الإصلاحات الرأسمالية» في أزمة خانقة، اقتصادياً واجتماعياً.. وحتى سياسياً.
هذا اللغط الكبير الذي سبّبه تذبذب الأنظمة وتغير شعاراتها، والذي لم ينعكس على الجماهير في كل الأحوال، إلا فقراً وقمعاً وقهراً متفاوت الحدة والشكل، أحدث بلبلة وتضليلاً واسعاً، خصوصاً لدى الناس العاديين، فأفقدهم الإيمان بكل أنواع وأشكال السياسات المتبعة والشعارات المعلنة، وساهم في دفعهم بتدرج سريع الوتيرة إلى براثن قوى ظلامية ليس لديها أي برنامج «دنيوي»..
ورغم كل ذلك، ليس من الصعب اليوم إقناع فقراء الأرض، وتحديداًً في البلدان العربية، أن هناك نظاماً يمكن أن ينصفهم ويحقق أحلامهم المؤجلة بالعدالة الاجتماعية بكل معانيها، نظاماً لا يشبه النظام الرأسمالي المكروه الذي ينهبهم ويقتلهم ويستغلهم كل يوم، والذي اتضح أنه هشّ جداً بعد دخوله في أزمة مستعصية، ولا يشبه المنظومة التسويفية للقوى السلفية، لكن ذلك يحتاج إلى قوى ثورية فاعلة، قوى تؤمن بعمق بأن الاشتراكية هي السبيل الوحيد لإنقاذ البشرية والطبيعة من كل الظلم الذي لحق بهما، ولعل ما جرى في أمريكا اللاتينية في العقد الأخير وما يزال يجري حتى اليوم، هو خير دليل على أن البشر ما يزالون يحلمون، وما يزالون قادرين على التضحية لتحقيق أحلامهم إذا وجدوا من يثقون به ويسيرون خلفه..
الاشتراكية هي الحل.. هذا هو الشعار الذي يجب على الثوريين الحقيقيين أن يرفعوه ويسيروا في مقدمة الناس من أجل تحقيقه..