إفتتاحية قاسيون العدد 504: قضايا برسم خطة إنقاذ وطني..

إفتتاحية قاسيون العدد 504: قضايا برسم خطة إنقاذ وطني..

بعد شهرين ونصف تقريباً من الأحداث والاضطرابات وأشكال المعالجات التي تعصف بسورية، بات السؤال ملحاً: ما التحولات الطارئة على مسألة «الأقلية والأغلبية»، وتحديداً بالارتباط بالمزاج العام لدى الناس، على اعتبار أن هذه المسألة ليست معطى مطلقاً، بل هي  مرتبطة بالتحوُّلات اللحظية الملموسة؟

وإذا ما اُستطلعت آراء الناس، أين هي «الأغلبية الصامتة» اليوم، بموازاة النظام الذي لا يقل شخوصه صمتاً؟ وذلك في الوقت الذي يتطلب منهم الكثير من الكلام والشرح المقترن بالأكثر منه فعلاً وتنفيذاً لما يتجاوز شعارات الإصلاح الجدي والجذري والملموس.

فالأكثر وضوحاً في التنفيذ على الأرض هي المعالجات الأمنية التي باتت تشكل العامل الأبرز في التأثير السلبي على المزاج العام للناس، الذين لم يعودوا في غالبية الحالات يأخذون بالفبركات الإعلامية الخارجية المغرضة، ولا يعترضون على استهداف المسلحين والتضييق عليهم، ويحز بنفسهم في الوقت نفسه استمرار سقوط الضحايا من مدنيين وعسكريين، ولكنهم يتأثرون بتجليات تلك الممارسات الأمنية من انتصاب أعداد متباينة من الحواجز الأمنية التابعة لجهات وأجهزة متعددة على الشارع الواحد، واضطرار الناس لإخلاء المركبات التي يستقلونها عند كل حاجز لإبراز هوياتهم وتفتيش حاجياتهم، وسط تباين أشكال التعامل من العناصر بين اللبق والمؤدب ومن هو ليس كذلك تماماً. وهذا تباين يتكرر مع عمليات تفتيش المنازل المتكررة في مدن وقرى التوتر، بما يستفز المواطنين، مثلما تستفزهم الاعتقالات وعمليات التوقيف بالجملة، وعودة «التقارير»، التي لا يُختَلف عليها إن كانت بحق المسلحين، ولكن ماذا عن استهدافها لمن خرج في مظاهرة أو ردد هتافاً مناهضاً، أو ما شابه، وهؤلاء كثر في ظل التشويش الذي حصل والذي يتحمل مسؤوليته الخارج والداخل على حد سواء؟

الاعتقالات بالجملة تنتج «روايات بالجملة» عن مجريات التحقيق في المراكز الأمنية وظروف الاعتقال واللغة المعتمدة به، مثلما تكثر روايات بعض الأهالي عن عسف «الرصاص الرسمي» بدوما ودرعا مثلاً في وقت تغيب فيه الأرقام الرسمية عن أعداد الشهداء المدنيين والقتلى المسلحين، بينما وصلت أعداد ضحايا الجيش والأمن إلى حدود 200 شهيد، لتُترك الساحة للتقارير الدولية المستندة إلى مايسمى بمنظمات إنسانية وحقوقية في الداخل السوري تتحدث عن 900 شهيد مدني غير مسلح، من الجنسين ومختلف الأعمار.

فكم لجنة تحقيق أصبحنا بحاجة إليها لتحديد المسؤولين فعلاً عن إراقة الدم السوري، وأين أصبح تصريح رئيس الجمهورية أمام مجلس الشعب عن «أخطاء اللحظة» من التداول الإعلامي الرسمي والموازي، دون أن يعني ذلك التقليل من قيمة شهداء الجيش؟

أما العقوبات الأوربية وقبلها الأمريكية المفروضة على سورية نظاماً، وشعباً بالنتيجة، ولاسيما في الشق الاقتصادي فيها، فقد قال وزير الخارجية والمغتربين إن الهدف منها هو استنزاف سورية شعباً واقتصاداً. ولكن الغريب على سبيل المثال أنه في مواجهة هذه العقوبات التي طالت شخصيات في النظام، بمن فيهم رجل الأعمال رامي مخلوف، فقد تم التوجه إلى بيع استثمار الأسواق الحرة السورية، التي انتقلت إليه بعد خصخصتها، إلى مستثمرين كويتيين، عوضاً عن تأميمها وتحويل عائداتها للاقتصاد والشعب السوري المستنزف..!

من الطبيعي والمنطقي أن تزيد العقوبات الدولية من استفزاز السوريين شعباً ونظاماً وهم باستثناء أصحاب الاستقواء بالخارج يدركون أن قضايا الشعب السوري هي ليست في دائرة اهتمام أصحاب هذه العقوبات، أو هي موجودة بمقدار ما تخدم المصالح الغربية.

لكن المشكلة المتفاقمة يوماً بعد يوم لدى عموم الناس هي الغياب شبه الكلي للنظام، باستثناء التجليات الأمنية والخطوات الإصلاحية متباطئة التنفيذ والمجتزأة مثل «تخفيض المازوت» مؤخراً، وما يوازيه من غياب شبه كلي للحركة الجماهيرية الواعية المنظمة واضحة الأهداف، والتي لا يندرج تحتها في كل الأحوال ما يظهر من أولئك الذين لا يعرفون تماماً لماذا يخرجون للشارع أو ممن أصبحوا مستفزين أو طلاب ثأر أو ممن بات يسيئهم استمرار حالة استعصاء اللاحل بمن فيهم عدد من أصبحوا متململين ممن كانوا مصنفين سابقاً بخانة «مع النظام» ضمن الثنائية الوهمية المستخدمة والتي تتحدث عن «أبيض وأسود، ولا رمادي»، والتي تسهم هي الأخرى في تبديد هذا الرمادي من السواد الأعظم من السوريين في هذه الأزمة الذين يريدون إصلاحاً لا تخريباً، مكافحة جدية للفساد على أعلى المستويات وفي أصغر الدوائر بما ينعكس على مستويات معيشتهم وحريتهم لا ترقيعاً واستهلاكاً إعلامياً، الذين يريدون أماناً واستقراراً لا سفحاً لكراماتهم تحت حجة استعادة الأمن، الذين يريدون الحفاظ على مواقفهم الوطنية ولا تنطلي عليهم ألاعيب الفوضى الخلاقة الأمريكية الصهيونية التدميرية لأوطانهم..

إن الحفاظ على الوحدة الوطنية ومواجهة الإطماع الخارجية المكشوفة التي يجري تمريرها بالخلايا الإجرامية المسلحة تارة وبالعقوبات تارة أخرى، باتت تتطلب تجاوز أشكال الحل أحادية النظرة والاتجاه، بما يشمله ذلك ما جاء في نداء عدد من القوى الوطنية السورية، من ضرورة إطلاق سراح جميع المعتقلين على خلفية الأحداث الحالية، ووقف كل أشكال استخدام العنف، والتأكيد على سلمية المظاهرات وتحريم استخدام السلاح بالتوازي مع عدم رفع شعار إسقاط النظام في المظاهرات السلمية بغية عدم إعاقة الحوار الوطني المنشود، ورفض وإدانة كل الدعوات المطالبة بأية تدخلات خارجية عربية كانت أم أجنبية وتحت أي مسمى صدرت، وعودة الجيش إلى مواقع انتشاره الطبيعي، ليعزز دوره في التحضير للتحرير المنشود للجولان المحتل ولاسيما مع التصريحات الأخيرة لأوباما أمام مؤتمر «إيباك» التي تعمد فيها تجاهل الإشارة للجولان وبقية الأراضي اللبنانية المحتلة، في إهانة سافرة.

في ظل التحديات والتشابكات الداخلية والخارجية فإن الحديث عن الإصلاح اليوم بات يعني وجود خطة إنقاذ وطني تكون أداته الحوار الوطني الحقيقي والشفاف، ويكون حامله وضمانته الحركة الشعبية، وغايته الوصول إلى نموذج سياسي، اقتصادي اجتماعي، ديمقراطي على أرض سورية الواحدة الموحدة، يخدم مصالح الشعب السوري، أولاً وأخيراً.

وإن أهداف هذا الإصلاح/ خطة الإنقاذ الناتجة عن ذاك الشكل من الحوار من شأنها أن تفرز الحالة الجماهيرية والقوى السياسية والمهمات الوطنية ليتحدد معها من هو «مع» أو «ضد» على أساس ثنائيات حقيقية وبرامج وطنية، تضمن كرامة الوطن والمواطن.