المحكومون بالأمل..
سنوات ٌ طويلة يخرج علينا فيها مذيع الأخبار بطلّتهِ الاعتيادية، يحدثنا عن طقوس الاستقبال والوداع.. عن زلزال ٍ في قارة ٍ بعيدة، أو عن حرب في بلدٍ ما يصعب لفظ اسمه.
ولسنوات ٍ طويلة اعتدنا أن نغلق التلفاز ونذهب إلى فراشنا بأحلامه المغرية..
في صباحٍ ليس بالبعيد يطل المذيع نفسه، ولكن بشكل آخر ولغة مختلفة.. هذه المرة نعرف أسماء البلدان التي يلفظها، قرأنا تاريخها، وتعلمنا من الكتب المدرسية أننا نشترك معها بـ(الآلام والآمال): تونس، مصر، اليمن، العراق.. بلاد العُرب أوطاني باتت تحرك فينا تلك المشاعر الدفينة، ذاك التوق الأخّاذ إلى الصراخ.. إلى البكاء.. إلى الفرح..
بلدٌ آخر ليس مجرد اسم ٍ فقط، شربنا من مائه وشهدنا جفاف أنهاره، مشينا في طرقاته وتعثرنا بحفره، غنينا له الأغنيات وتلعثمنا بالألحان.
بلدٌ هجر أهله السياسة باعتبارها خطاً أحمر، شيئاً محرماً يودي بصاحبه إلى المجهول، فامتهنوا لغة الصمت في الحديث عن مشاكلهم، وفي أحسن الأحوال الهمس.. ونسي فيه الساسة هموم الخلق، ربما لأنهم هرموا على كراسيهم الدبقة.. فكدس الناس أوجاعهم اليومية، فقرهم، بطالتهم، قلة حيلتهم... إلى أن اعتمر القلب بالحزن والاغتراب.. تركوا صناديق اقتراعها الصدئة ليملأها الشعراء والدخلاء. تخلّوا عن شوارعها وأرصفتها لأصحاب المواقف المأجورة..
بلدٌ لطالما تغنينا فيه بتاريخنا وماضينا العتيق لا لشيءٍ إلا هرباً من واقعٍ بائسٍ تتشابه فيه عيون البشر، وتخبو فيه أحلامهم.
وكالطفل الوليد الذي خرج لتوه من رحم أمه، لا يعرف إلا البكاء والصراخ، نخرج عن صمتنا الطويل وعن كبتنا المقيت، لا نعرف في البدء إلا لغة (الآه)، نترنح في مشيتنا الأولى يميناً وشمالاً، وقد نتعثر ونعاود الوقوف.. تصبح السياسة – تلك الكلمة التي هجرناها دهراً – محور أحاديثنا اليومية ولو بشكلها الطفولي الفج.
تختلط علينا الصور وتتسارع الأحداث ونتخبط على أعتاب الفضائيات والإذاعات، ندخل دوامة القلق والترقب والانتظار.. ولكننا ندرك بعد قليل أن صرختنا الأولى لن تبقى مجرد (آهات)، بل ستغدو كلمات تنطق أوجاعنا وتزيد عظمنا الطري صلابة وقوة ورغبةً بالعمل.
ندركُ أننا سننضج لا محال، لأنه وفي أحد الأيام حُكِمَ علينا بالأمل.