الحل السياسي وتوافقات المستوى الجديد
تستمر عملية «إحراق سورية» دون توقف، ويتصاعد الاستنزاف فيها ليتحمل السوريون تكاليف تأخر الحل السياسي، دماء وتشرداً وخراباً. ما يغيب عن كثيرين هو أنّ استقرار أية دولة يقوم أساساً على درجة معينة من التوافق بين مواطنيها، بعضهم مع بعض، وبينهم وبين الدولة، تلك الدرجة التي أدى التراجع عنها خلال سنوات ما قبل الأزمة عبر السياسيات الليبرالية، وعبر انخفاض مستوى الحريات السياسية، إلى فتح كل الثغرات أمام الأعداء الخارجيين وتشريع الأبواب أمام حالة الفوضى وعدم الاستقرار التي تعيشها سورية اليوم.
وقبل الحديث عن اية استحقاقات واجبة بالأحوال الطبيعية فإن إعادة الاستقرار إلى سورية، والحفاظ على وحدتها الوطنية، يتطلب اليوم في ظروف الأزمة السورية الشاملة والعميقة عملاً وطنياً صادقاً على جبهتين متوازيتين ومتلازمتين، بهدف رئيسي يتمثل في إنهاء الكارثة الإنسانية العاصفة بالبلاد ومعالجة آثارها:
الأولى، هي جبهة جنيف- الحل السياسي، بما تعنيه من وقف للتدخل الخارجي، بكل أشكاله، وللعنف الداخلي، أياً كان مصدره، ومن إطلاق للعملية السياسية المتكاملة، باعتبارها شروطاً متسلسلة ولازمة ليس للخروج من الأزمة فقط، وإنما أيضاً باعتبارها المنصة الوحيدة للحفاظ على سورية أرضاً وشعباً، فقط بحكم درجة التدويل العالية للأزمة السورية، وتداخل ملفات المشهدين الإقليمي والدولي.
وأما الجبهة الثانية، فهي جبهة التوافق الداخلي بين السوريين، التي تمثل المصالحة الوطنية منصة رئيسة لها، يبنى عليها رؤية جديدة في كل الاتجاهات لسورية الجديدة، على أساس حوار وطني شامل وحقيقي بين السوريين، يبنون من خلاله درجة التوافق المطلوبة فيما بينهم، ضمن معطيات الأزمة، وما سيأتي بعدها، ليتمكنوا من إخراج سورية، موحدة أرضاً وشعباً، من أزمتها الراهنة.
إنّ أولئك الذين يحاولون اختزال الأزمة بالعدو الخارجي وبالأسباب الخارجية فقط، هم كمن يمجد ذكرى الشهيد يوسف العظمة ويغض الطرف عمن جروا عربة غورو. إنّ السوريين إذ تمكنوا من تحقيق استقلالهم السياسي، فإنهم لم يستكملوه بالاستقلال الاقتصادي وبتكوين نموذجهم الثقافي- المعرفي (كأحد مكونات الهوية الوطنية) حتى الآن، وهي الاستحقاقات التي لن يستطيع النهوض بأعبائها إلا شعب سوري موحد ومتوافق على المهام المتراكمة والمستجدة التي ينبغي حلّها، وهو ما لا يمكن معالجته جدياً دون وقف الاستنزاف ووقف الدمار عبر الاستفادة من التوازن الدولي القائم لتسريع الحل السياسي بحلقاته الثلاث، بما يفتح الباب أمامهم ليواجهوا موحدين القوى التكفيرية والفاشية الجديدة ومن بحكمها باتجاه عزلها وإنهائها.
ولا تغيب عن الأذهان حقيقة أن العدو لم يكن يوماً بوجه واحد صريح، فلطالما كان مركباً، خارجياً وداخلياً، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً، ما يعني أن مواجهته ينبغي أن تكون مركبة هي الأخرى.
وبالملموس فإنّ إخراج سورية من أزمتها، يحتاج قبل كل شيء إلى كشف وجوه العدو المختلفة التي ساقتنا إلى الأزمة والتي عقدتها، وصولاً إلى توافق سوري جديد، يسمح لهذا الوطن بأن ينهض من أزمته، ويسمح له أن يحيا، وأن يزدهر. وإنّ توافقاً من هذا النوع لن يكون بمستوى التوافقات السابقة، إذ إن سورية وبعد كل ما مرت به خلال الأزمة وقبلها، وخصوصاً لجهة نموذجها الاقتصادي- الاجتماعي السياسي والديمقراطي، قد أصبحت اليوم بحاجة إلى توافق جديد أعلى وأكثر عمقاً من جميع التوافقات السابقة، وهذا ما تكثفه عبارة «التغيير الجذري الشامل»، ضمن حقيقة كبرى، ترسخها ذكرى الجلاء اليوم: «ها هنا وطن اسمه سورية»..